المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفرع الأول في تعريف القراءة الشاذة - الجامع في أحكام صفة الصلاة - الدبيان - جـ ٣

[دبيان الدبيان]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث الثاني في قراءة المأموم ما زاد على الفاتحة

- ‌الفرع الأول في قراءته ما زاد على الجهرية

- ‌الفرع الثاني في قراءة المأموم ما زاد على الفاتحة في السرية

- ‌المبحث الثالث في قراءة ما زاد على الفاتحة في الركعة الثالثة والرابعة

- ‌المبحث الرابع في أقل ما تحصل به السنة من القراءة بعد الفاتحة

- ‌المبحث الخامس في قراءة السورة قبل الفاتحة

- ‌المبحث السادس

- ‌فرع في مقدار التفاوت بين الركعة الأولى والثانية في القراءة

- ‌المبحث السابع في إطالة الركعة الثانية على الأولى

- ‌المبحث الثامن في القراءة من أواسط السور وأواخرها

- ‌المبحث التاسع في قراءة أكثر من سورة في الركعة الواحدة

- ‌المبحث العاشر في تكرار السورة الواحدة في ركعتين

- ‌الفصل الثالث في مقدار القراءة في الصلوات الخمس

- ‌المبحث الأول في تقسيم سور القرآن إلى طوال ومئين ومثان ومفصل

- ‌المبحث الثاني في تحديد بداية المفصل

- ‌المبحث الثالث في تحديد طوال المفصل وأوسطه وقصاره

- ‌المبحث الرابع في مقدار القراءة المستحبة في صلاة الصبح

- ‌فرع في استحباب قراءة السجدة والإنسان في فجر الجمعة

- ‌المبحث الخامس في مقدار القراءة في صلاة الظهر

- ‌المبحث السادس في مقدار القراءة في صلاة العصر

- ‌المبحث السابع في مقدار القراءة في صلاة المغرب

- ‌المبحث الثامن قدر القراءة من بالمغرب من السور الطوال

- ‌المبحث التاسع قدر القراءة في صلاة العشاء

- ‌الفصل الرابع في الأحكام العامة المتعلقة بالقراءة

- ‌المبحث الأول الجهر والإسرار في الصلاة

- ‌الفرع الأول الجهر والإسرار بالصلاة المؤداة

- ‌الفرع الثاني في الإسرار في الصلاة الفائتة

- ‌الفرع الثالث حكم الجهر والإسرار في موضعه

- ‌المسألة الأولى حكم الجهر والإسرار بالقراءة للإمام

- ‌المسألة الثانية حكم الجهر والإسرار بالقراءة للمنفرد

- ‌المسألة الثالثة حكم الجهر بالقراءة للمأموم

- ‌المسألة الرابعة حكم جهر المرأة بالقراءة

- ‌الفرع الرابع في أقل الجهر وأعلاه

- ‌المسألة الأولى في أقل الجهر

- ‌المسألة الثانية في أعلى الجهر

- ‌الفرع الخامس في جهر بعض المصلين على بعض

- ‌الفرع السادس الجهر ببعض الآيات في الصلاة السرية

- ‌المبحث الثاني في السؤال عند آية الوعد والتعوذ عند آية الوعيد

- ‌المبحث الثالث في حكم قراءة القرآن بغير العربية في الصلاة

- ‌المبحث الرابع في القراءة الشاذة

- ‌الفرع الأول في تعريف القراءة الشاذة

- ‌الفرع الثاني الصلاة بالقراءة المخالفة لرسم المصحف

- ‌الفرع الثالث في الاحتجاج بالقراءة الشاذة في الأحكام

- ‌الفرع الرابع في الجمع بين القراءات المختلفة في الصلاة

- ‌المبحث الخامس في القراءة من المصحف

- ‌الفرع الأول القراءة من المصحف خارج الصلاة

- ‌الفرع الثاني في القراءة من المصحف بالصلاة

- ‌الباب السابع في أحكام الركوع

- ‌الفصل الأول في حكم تكبيرات الانتقال ومنه التكبير للركوع

- ‌الفصل الثانيفي حكم الركوع

- ‌المبحث الأول يرفع يديه للركوع والرفع منه دون القيام من الركعتين

- ‌المبحث الثاني في وقت ابتداء التكبير

- ‌المبحث الثالث في مد تكبيرات الانتقال لتستوعب جميع المحل

- ‌الفصل الرابع في صفة الركوع

- ‌المبحث الأول في الصفة المجزئة

- ‌المبحث الثاني في صفة الركوع الكامل

- ‌الفرع الأول في وضع اليدين على الركبتين

- ‌الفرع الثاني إذا نوى بالانحناء غير الركوع

- ‌المبحث الثالث في مد الظهر ومجافاة المرفقين عن الجنبين

- ‌المبحث الرابع وجوب الطمأنينة في الصلاة

- ‌الفصل الخامس في أذكار الركوع والسجود

- ‌المبحث الأول حكم التسبيح في الركوع والسجود

- ‌المبحث الثاني صيغة التسبيح في الركوع والسجود

- ‌المبحث الثالث في زيادة (وبحمده) مع التسبيح

- ‌المبحث الرابع أقل ما تحصل به سنة التسبيح

- ‌المبحث الخامس أعلى الكمال في تسبيح الركوع والسجود

الفصل: ‌الفرع الأول في تعريف القراءة الشاذة

‌المبحث الرابع في القراءة الشاذة

‌الفرع الأول في تعريف القراءة الشاذة

المدخل إلى المسألة:

* القراءة والقرآن حقيقتان متغايرتان، فقد يجتمعان، وقد يفترقان.

* كل قرآن قراءة، وليس كل قراءة قرآنًا.

* لا نزاع بين العلماء أن القراءات السبع ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل بها القرآن، بل هي جزء من الأحرف السبعة.

* المصاحف العثمانية جزء من الأحرف السبعة، وليست هي الأحرف السبعة.

* الصحيح في القراءة الصحيحة: أنها محدودة بالوصف، وليست معدودةً في قراءة أئمة بأعيانهم ما خالفها فهو الشاذ.

* ما خالف القراءة الصحيحة قد يكون شاذًّا، وقد يكون ضعيفًا، وقد يكون باطلًا.

قبل تعريف القراءة الشاذة ينبغي لنا أن نعرف القراءات اصطلاحًا، ثم نذكر تعريف القراءة الشاذة فرعًا عنها.

تعريف القراءات اصطلاحًا

(1)

:

(1)

. القراءات: جمع، مفردها قراءة، والقراءة: مصدر من الفعل: (قَرَأَ يَقْرَأُ) من باب: (فَعَلَ يَفْعَلُ)، ومادة (ق ر أ) تدور في لسان العرب حول معنى الجمع والاجتماع، فتقول: قرأت الشيء: إذا جمعته، وضممت بعضه إلى بعض، فيكون معنى: قرأت القرآن: لفظت به مجموعًا. انظر لسان العرب (1/ 128)، تاج العروس (1/ 102، 103).

وفرق ابن قيم الجوزية بين قَرَى يَقْرِي (فَعَلَ يَفْعِل) وبين قرأ يقرأ الذي هو من باب (فَعَلَ يَفْعَلُ)، فهما أصلان مختلفان: فالأول: من الجمع والاجتماع، ومنه: قَرَيْتُ الماء في الحوض أَقْرِيهِ، أي: جَمَعْتُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيت القَرْيَةُ، ومنه قَرْيَةُ النمل: للبيت الذي تجتمع فيه؛ لأنه يَقْرِيهَا، أَيْ يَضُمُّهَا وَيَجْمَعُهَا.

وأما المهموز: فإنه من الظهور والخروج، ومنه قِرَاءَةُ القرآن؛ لأن قارئه يظهره ويخرجه مقدرًا محدودًا، لا يزيد ولا ينقص، ويدل عليه قوله تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17]، ففرق بين الجمع والقرآن، ولو كان واحدًا لكان تكريرًا محضًا

إلخ. انظر زاد المعاد (5/ 564).

ص: 325

القراءات: علم يعرف منه اتفاق الناقلين لكتاب الله، واختلافهم في اللغة، والإعراب، والحذف، والإثبات، والتحريك، والإسكان، والفصل والاتصال، وغير ذلك من هيئة النطق، والإبدال من حيث السماع.

أو يقال: علم يعرف منه اتفاقهم واختلافهم في اللغة والإعراب، والحذف والإثبات، والفصل والوصل، من حيث النقل

(1)

.

وعرفها الشيخ عبد الفتاح القاضي:

بأنه علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية، وطريق أدائها اتفاقًا واختلافًا مع عزو كل وجه لناقله

(2)

.

فتبين من تعريفها أنها علم يشتمل على:

كيفية النطق بألفاظ القرآن، وكتابتها.

بيان مواضع اتفاق نقلة القرآن واختلافهم.

وعزو كل كيفية من كيفيات أداء القرآن إلى ناقلها، وتمييز الصحيح والشاذ منها.

وإذا عرفنا القراءات، فما تعريف القراءة الشاذة؟

يحسن أن نذكر إشارات تمهد لنا معرفة الوقوف على مواضع الاتفاق لننتقل

(1)

. لطائف الإشارات (1/ 170)، نقلًا من كتاب القراءات وأثرها في التفسير والأحكام (ص: 81).

(2)

. البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة (ص: 7).

وقد اصطلح علماء القراءات في التفريق بين القراءة، والرواية، والطريق.

فكل خلاف نسب لإمام من الأئمة العشرة مما أجمع عليه الرواة عنه فهو قراءة.

وكل ما نسب للراوي عن الإمام فهو رواية.

وكل ما نسب للآخذ عن الراوي، وإن سفل فهو طريق، فيقال: قراءة حمزة، برواية شعبة، وطريق عبيد بن الصباح، عن حفص، وهكذا.

ص: 326

منها إلى مواضع الاختلاف:

فالعلماء متفقون على أن القرآن أنزل على سبعة أحرف.

(ح-1599) لما رواه البخاري ومسلم من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال:

سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: وفيه: .... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا منه ما تيسر

(1)

.

(ح-1600) وروى الشيخان من طريق يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود،

عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أقرأني جبريل على حرف، فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف

(2)

.

ولا نزاع بين العلماء أن القراءات السبع ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل بها القرآن.

يقول ابن تيمية: «القراءات المنسوبة إلى نافع، وعاصم ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف

(3)

.

(1)

. صحيح البخاري (2419)، وصحيح مسلم (270 - 818).

(2)

. صحيح البخاري (3219)، وصحيح مسلم (272 - 819).

(3)

. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 422).

والسؤال من أين أتى هذا الوهم على العامة من اعتبار الأحرف السبعة، هي القراءات السبع؟

فالجواب: ربما جاء هذا الوهم أن ابن مجاهد المتوفى سنة (324) هـ اختار من القراءات سبع قراءات مشهورة، فظن بعض الناس أن الأحرف السبعة المذكورة في حديث الأحرف السبعة: هي القراءات السبع المشهورة؛ لمَّا وافق عددها عدد القراء السبعة الذين اختارهم ابن مجاهد، وهو وهم قبيح، وقد لام بعض العلماء ابن مجاهد على اختيار هذا العدد لأنه أوقع من لايعلم في مثل هذا الوهم.

يقول ابن الجزري في النشر (1/ 24): «لا يجوز أن يكون المراد هؤلاء السبعة القراء المشهورين، وإن كان يظنه بعض العوام؛ لأن هؤلاء السبعة لم يكونوا خلقوا، ولا وجدوا» .

وقال أبو شامة (ت: 665): «ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن: هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض الجهال» . =

ص: 327

واختلف المتأخرون في المصحف العثماني الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعون لهم بإحسان، والأمة بعدهم، أهو حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها، أم هو مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين، أصحهما، والذي عليه جماهير العلماء من السلف، والخلف وأئمة المسلمين أن المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة، وليست مجموع الأحرف السبعة، ورجح ذلك ابن الجزري، وابن تيمية وغيرهما خلافًا لبعض الفقهاء وبعض القراء، وبعض المتكلمين

(1)

.

وعلى هذا يوجد قراءات خارج القراءات السبع، والعشر تعتبر قراءات صحيحة، بل قد تكون أصح من القراءات السبع.

(1)

. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 422)، الحجة للقراء السبعة (ص: 8)، الإبانة عن معنى القراءات (ص: 32).

ص: 328

وإذا كان ذلك كذلك: فما هو الضابط في الحكم على قراءة بأنها قراءة صحيحة؟

وإذا حكمنا على قراءة ما بأنها شاذة، فهل يجوز القراءة بها في الصلاة؟

وإذا كان لا يجوز القراءة بها في الصلاة، فهل تكون حجة في استنباط الأحكام باعتبارها خبرًا من الأخبار؟

هذا ما سوف أعرج عليه في مباحث هذه الفقرة من البحث، وإن كانت هذه المسألة يطلب بحثها في علوم القرآن، فالمرجع في كل فن إلى خاصة أهله، وإن أُدْرِجَت هذه المسألة ضمن مباحث أصول الفقه حيث تذكر في مباحث دليل الكتاب، وليست من مسائل الفروع، إلا أن خوض بعض المتكلمين في المسألة يستفاد منه على حذر، فإن كلامهم للتنظير وليس لكثير منهم ممارسة من جهة التطبيق العملي، كخوضهم في شروط الحديث الصحيح وزيادة الثقة والشاذ، والموقف من تعارض الوصل والإرسال، والإسناد والوقف، فكان كلام كثير منهم لا علاقة له بما جرى عليه عمل أئمة العلل من المحدثين والذين يتعاملون مع الأحاديث فردًا فردًا، كما يتعامل الفقيه مع فروعه.

فلنأخذ هذه المسائل مسألة مسألة، وليكن المدخل إليها في تعريف القراءة الصحيحة من القراءة الشاذة.

تعريف القراءة الشاذة:

[م-609] اختلف العلماء في تعريف القراءة الشاذة على أقوال، أصحها ما اختاره جمهور المحققين:

يقول ابن الجزري في معرفة ضابط القراءة الصحيحة من القراءة الشاذة: «كل قراءة وافقت العربية، ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية، ولو احتمالًا، وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء أكانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اخْتَلَّ ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة، أو شاذة، أو باطلة، سواء أكانت عن السبعة، أم كانت عمن هو أكبر منهم»

(1)

.

(1)

. النشر في القراءات العشر (1/ 9).

ص: 329

ويقول أبو شامة: «فليس الأقرب في ضبط هذا الفصل إلا ما قد ذكرناه مرارًا من أن كل قراءة اشتهرت بعد صحة إسنادها، وموافقتها خط المصحف، ولم تنكر من جهة العربية، فهي القراءة المعتمد عليها، وما عدا ذلك داخل في حيز الشاذ والضعيف، وبعض ذلك أقوى من بعض» .

ويقول ابن القيم: «لا يجب على الإنسان التقيد بقراءة السبعة المشهورين باتفاق المسلمين، بل إذا وافقت القراءة رسم المصحف الإمام، وصحت في العربية، وصح سندها جازت القراءة بها، وصحت الصلاة بها اتفاقًا»

(1)

.

فذكروا ثلاثة شروط أو أركان للقراءة الصحيحة:

الركن الأول: أن يصح سندها، وبعضهم اشترط مع صحة الإسناد أن تنقل نقلًا متواترًا أو مستفيضًا

(2)

.

فما لم يصح سنده منها لا تثبت قراءةً، ولا يقرأ بها، وإن كان بعضهم يصفها بالقراءة الشاذة، فالذي يظهر لي أن ما لا يثبت قراءة لا توصف بالشذوذ، فإما أن تكون ضعيفة أو باطلة، وليس الشاذ في القراءة كالشاذ في الحديث، فالشاذ في القراءة قد تثبت قراءة، ولكن لا يقطع الباحث بقرآنيتها، ولا بعدمه؛ لعدم الإجماع عليها كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، والشاذ في الحديث لا يعتبر به؛ لأنه من قبيل الوهم؛ لمخالفة الثقة من هو أوثق منه في مخرج الحديث

(3)

.

(1)

. أعلام الموقعين، تحقيق فضيلة الشيخ مشهور (6/ 205).

(2)

. انظر تفسير ابن جزي (1/ 23).

(3)

. نقل ابن الجزري عن الإمام أبي محمد المكي في النشر قوله: فإن سأل سائل فقال: فما الذي يقبل من القرآن الآن فيقرأ به؟ وما الذي لا يقبل ولا يقرأ به؟ وما الذي يقبل ولا يقرأ به؟

ثم ذكر هذه الأقسام الثلاثة.

فجعل القسمة ثلاثًا: الأول: ما جمع بين القرآن والقراءة، وهو ما اجتمع فيه شروط القراءة الصحيحة، فذلك الذي يعتبر قراءة وقرآنًا.

والثاني: ما لا يصح أن يكون قرآنًا، ولا يثبت قراءة، فذلك الذي لم يصح إسناده، أو نقله ثقة، ولا وجه له في العربية، وإذا لم يثبت قراءة، لم يوصف بالشذوذ، بل بالبطلان.

والثالث: ما كان قراءة، وليس بقرآن، وهو ما صح سنده، وكان له وجه في العربية، وخالف رسم المصاحف العثمانية، فهذا الذي يصدق عليه أنه شاذ، وجاء شذوذه من مخالفته رسم المصحف العثماني، وبهذا تعرف أن القول بأن ما اختل فيه شرط من شروط القراءة الصحيحة أطلق عليه شاذ أن في ذلك توسعًا غير مرضيٍّ، والله أعلم.

ص: 330

فيكون قول ابن الجزري: متى اخْتَلَّ ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة، أو شاذة، أو باطلة.

الراجح أن (أو) على التقسيم، وليس على التخيير، فالبطلان: إذا كانت القراءة لم تصح سندًا، ولم توافق وجهًا بالعربية.

والضعيفة: ما كان إسنادها ضعيفًا، وإن وافقت العربية، ورسم المصحف.

والشاذ: ما صح إسنادها، ووافقت العربية، وخالفت الرسم.

الركن الثاني: أن توافق العربية ولو بوجه، بأن يلتمس لها شاهد أو نظير تقاس عليه، أو لهجة ترد إليها، أو تأويل أو توجيه تُحمل عليه.

الركن الثالث: أن توافق في الرسم أحد المصاحف العثمانية، سواء أكان مدنيًّا أم كوفيًّا أم شاميًّا، أم مصريًّا، ولا يشترط أن توافقها كلها، فقد توافق المصحف المدني، وتخالف الكوفي.

يقول القرطبي: «وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم، وينقصها بعضهم، فذلك لأن كلًّا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه؛ إذ قد كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ، ولم يكتبها في بعض، إشعارًا بأن كل ذلك صحيح، وأن القراءة بكل منها جائزة»

(1)

.

فإن لم توافق أحد هذه المصاحف، بل خالفتها كلها فقد دخل في رسم الشاذ عند جمهور العلماء.

وقيل في تعريف الشاذ:

قال السيوطي في الإتقان: الشاذ: وهو ما لم يصح سنده

(2)

.

فما صح سنده، وخالف العربية ورسم المصحف لم يكن شاذًّا عند السيوطي، بل يسميه آحادًا.

(1)

. تفسير القرطبي (1/ 54).

(2)

. الإتقان في علوم القرآن (1/ 265).

ص: 331

وعرَّف ابن الصلاح الشاذ: بقوله: «ما نقل قرآنًا من غير تواتر واستفاضة»

(1)

.

وعليه يكون ما عدا المتواتر شاذًّا عنده.

فعند ابن الجزري ومكي: القراءة إذا لم يصح سندها ووافقت العربية ورسم المصحف، لم تقبل، ولم تقرأ، ولم تُسَمَّ شاذة بل هي قراءة ضعيفة، وتسمَّى شاذةً عند السيوطي وابن الصلاح.

وإن خالفت العربية، فكذلك عند ابن الجزري ومكي، وهي آحادية عند السيوطي، وشاذة عند ابن الصلاح.

وإن خالفت الرسم، وصح إسنادها، ووافقت العربية كانت عندهما وعند ابن الصلاح قراءة شاذة، تقبل، ولا تقرأ، وهي آحاد عند السيوطي.

وإذا صح سندها، ووافقت العربية، والرسم، فهي قراءة وقرآن عندهما، وهي آحاد عند السيوطي، وشاذة عند ابن الصلاح.

وتعريف مكي وابن الجزري أقرب للصواب.

وسيأتي مزيد بحث في اشتراط التواتر في هذا الفصل، وفي الفصل الذي يليه إن شاء الله تعالى، فانظره لتعرف الخلاف في اشتراط ابن الصلاح.

فمثال القراءة الصحيحة مما جَمَع هذه الأركان الثلاثة: قراءة: (مالك، ومَلِك)، (يَخْدَعُون يُخَادِعُون)، (وأوصَى ووصَّى)، (تَطَوَّعَ يطوع)، ونحو ذلك من القراءات المشهورة.

ومثال ما خالف وجه العربية: قراءة بعضهم: إنما يخشى الله من عباده العلماء برفع لفظ الجلالة ونصب العلماء. ويصح أن تكون هذه القراءة مثالًا أيضًا للقسم الثالث؛ لأن ناقلها غير ثقة.

ومثال ما خالف فيه الرسم العثماني: قراءة ابن مسعود: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. بزيادة (متتابعات).

ومنها: بعض قراءة الأعمش: وما أوتوا من العلم إلا قليلًا. قال الأعمش: هكذا في قراءتنا

(2)

.

(1)

. البرهان في علوم القرآن (1/ 332)، منجد المقرئين (ص: 20).

(2)

. صحيح البخاري (125).

ص: 332

ومنها قراءة ابن عباس: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا

(1)

.

ومثال ما لم يصح إسناده من القراءات: فهذا كثير منها في كتب الشواذ، كما في قراءة: ننجيك ببدنك قرأها ننحيك بالحاء المهملة، وكالقراءة المنسوبة إلى أبي حنيفة، ولا تصح عنه.

فإذا عرفت هذا فقد انقسم العلماء إلى قسمين في معرفة القراءة الصحيحة من الشاذة:

أهي محدودة بالوصف مطلقًا، حتى ولو كانت من خارج القراءات السبع، أو العشر، أو غيرهما، أم هي القراءة الصادرة من قراء معينين، فما خرج عن قراءتهم فهو الشاذ، على خلاف في تحديد القراء، أهم السبعة أم العشرة؟ على قولين:

فالأول: يرى أن ما استجمعت الأركان الثلاثة فهي قراءة صحيحة مطلقًا، سواء أكانت من القراءات السبع أم من العشر، أم من غيرهما، نص عليه أحمد، وهو المشهور من مذهبه

(2)

.

والشاذة: كل قراءة اخْتَلَّ فيها ركنٌ أو أكثر من أركان القراءة الصحيحة.

يقول السيوطي في الإتقان: «هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صرح بذلك الداني ومكي والمَهْدَوِيُّ، وأبو شامة، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه»

(3)

.

يقول ابن الجزري في طيبته:

فكل ما وافق وجْهَ نَحْوِ

وكان لِلرَّسْمِ احتمالًا يحوي

(1)

. انظر صحيح البخاري (2728).

(2)

. قال في الإقناع (1/ 119): «تصح -يعني الصلاة- بما وافق المصحف، وإن لم يكن من العشرة نصًّا، وكره أحمد قراءة حمزة، والكسائي، والإدغام الكبير لأبى عمرو

».

وقال في الإنصاف (2/ 58): وإن قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان لم تصح صلاته، وتحرم؛ لعدم تواتره، وهذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب .... ».

وجاء في الفروع (3/ 183): «وتصح بما وافق مصحف عثمان رضي الله عنه وفاقًا للأئمة، زاد بعضهم: على الأصح، وإن لم يكن من العشرة نص عليه .... » .

وانظر: شرح منتهى الإرادات (1/ 193)، المبدع (1/ 392).

(3)

. الإتقان في علوم القرآن (1/ 258).

ص: 333

وصح إسنادًا هو القرآن

فهذه الثلاثة الأركان

وحيثما يختل ركن أثبِتِ

شذوذه لو أنه في السبعة

ويقول المرداوي الحنبلي: «الصحيح من مذهب الإمام أحمد، وعليه أصحابه: أن الشاذ: ما خالف مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي كتبه وأرسله إلى الآفاق، فتصح قراءة ما وافقه وصح سنده، وإن لم يكن من العشرة، نص عليه الإمام أحمد»

(1)

.

ويقول الشوكاني: «إذا تقرر لك إجماع أئمة السلف والخلف على عدم تواتر كل حرف من حروف القراءات السبع، وعلى أنه لا فرق بينها وبين غيرها إذا وافق وجهًا عربيًّا، وصح إسناده، ووافق الرسم ولو احتمالًا بما نقلناه عن أئمة القراء، تبين لك صحة القراءة في الصلاة بكل قراءة متصفة بتلك الصفة سواء كانت من قراءة الصحابة المذكورين في الحديث أو من قراءة غيرهم»

(2)

.

وسيأتي مناقشة صحة الصلاة بها، وهل يلزم من ثبوتها قراءةً ثبوتها قرآنًا.

وقسم المالكية والشافعية الشاذ إلى قسمين:

الأول: شاذ مخالف للرسم العثماني، فهذا لا يقرأ به، وتبطل به الصلاة.

الثاني: شاذ موافق لرسم المصحف، قال المالكية: فهذا لا تبطل به الصلاة، وإن حرمت القراءة به.

وقال الشافعية: تصح صلاته بشرط ألا يتغير المعنى.

وقد رسم المالكية هذا الشاذ في كل قراءة لم يقرأ بها السبعة واحتملت موافقته لرسم المصحف، وذلك نحو (أساء) في قوله تعالى:{قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} [الأعراف: 156]، فإنه قرئ شاذًّا فعلًا ماضيًا مهمل السين (أَسَاء) فهو موافق للرسم العثماني؛ إذ لم يكن فيه نقط ولا شكل، والسبعة قرأته بشين معجمة.

ومثله نحو (خَلَقْتُ) في قوله تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت} فإنه قرئ شاذًّا بفتح الخاء المعجمة واللام، وضم التاء، وكذا رفعت ونصبت،

(1)

. التحبير شرح التحرير (3/ 1384).

(2)

. نيل الأوطار (2/ 275).

ص: 334

وسطحت، وهي قراءة شاذة، وإن وافقت رسم المصحف.

وقال النووي: «وتصح القراءة بالشاذ إن لم يكن فيها تغيير المعنى، ولا معنى زيادة حرف، ولا نقصانه»

(1)

.

وقال المالكية: ما وافق الرسم، ولم يقرأ به في الشاذ، ولا في غيره، فهذا معدود من اللحن

(2)

.

وقيل: المتواتر القراءات السبع، وما وراءها فهو الشاذ، اختاره ابن الحاجب من المالكية، والنووي والرافعي والرملي من الشافعية

(3)

.

يقول النووي: «القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وكل واحدة من السبع متواترة، هذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه»

(4)

.

وقال في تحفة المحتاج: وتحرم القراءة بالشاذ مطلقًا

وهو ما وراء السبعة، وقيل: العشرة

(5)

.

فجزم بشذوذ ما وراء السبعة، وقدمه، وحكى القول بالثاني بصيغة التمريض.

وعلى هذا القول تكون القراءات الثلاث شاذة حتى ولو صح إسنادها، ووافقت العربية، ووافقت رسم المصحف.

قال في مراقي السعود:

تَوَاتُرُ السبع عليه أجمعوا

ولم يكن في الوحي حَشْوٌ يَقَعُ

(6)

.

(1)

. روضة الطالبين (1/ 242)، وانظر: تحفة المحتاج (2/ 38، 39)، غاية البيان شرح زبد ابن رسلان (ص: 85)، المهمات في شرح الروضة والرافعي (3/ 52).

(2)

. شرح الزرقاني على مختصر خليل (2/ 19)، منح الجليل (1/ 360)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 328)، لوامع الدرر (2/ 455)، الخرشي (2/ 25).

(3)

. حاشية العدوي على الخرشي (2/ 25)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (2/ 19)، جواهر الدرر في حل ألفاظ المختصر (2/ 337)، المجموع (3/ 392)، أسنى المطالب (1/ 63)، الغرر البهية شرح البهجة الوردية (1/ 311)، مغني المحتاج (1/ 153)، فتح الرحمن بشرح زبد ابن رسلان (ص: 274)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 169)، حاشية الجمل (1/ 346).

(4)

. المجموع (3/ 392).

(5)

. تحفة المحتاج (2/ 39).

(6)

. مراقي السعود (ص: 99).

ص: 335

وقد انتقد ذلك ابن العربي المالكي، فقال: إن ضبط الأمر على سبع قراءات ليس له أصل في الشريعة، وقد جمع قوم ثماني قراءات، وقد جمع آخرون: عشر قراءات، والأصل في ذلك كله عندي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف. انقسم الحال بقوم، فظن جاهلون أنها سبع قراءات، وهذا ما لا يصح في علم عالم، وتيمن آخرون بهذا اللفظ، فقالوا: تعالوا فلنجمع سبع قراءات، وكانت الأمصار جمة، وقد جمع قراؤها وقراءاتها حتى خطر هذا الخاطر، فجمع السبع، وهو ابن مجاهد .... إلخ

(1)

.

يقول ابن تيمية: «لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعون من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين (يعني القراءات السبع)؛ بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة (هذا خارج القراء العشرة) أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي (من القراء العشرة) ونحوهما كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف؛ بل أكثر العلماء الأئمة الذين أدركوا قراءة حمزة كسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وبشر بن الحارث، وغيرهم يختارون قراءة أبي جعفر بن القَعْقَاعِ وَشَيْبَةَ بْنِ نِصَاحٍ المدنيين وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم على قراء حمزة والكسائي. وللعلماء الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء؛ ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة يجمعون ذلك في الكتب ويقرؤونه في الصلاة وخارج الصلاة وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم.

وأما الذي ذكره القاضي عياض ومن نقل من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة وجرت له قصة مشهورة فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف

إلخ

(2)

.

(1)

. العواصم من القواصم (ص: 360).

(2)

. مجموع الفتاوى (13/ 392، 393).

ص: 336

وقيل: القراءات السبع مشهورة مستفيضة

(1)

.

وقيل: السبع متواترة، والثلاث تمام العشر آحاد صحيحة، وما زاد عليهما فهو من الشاذ، اختاره ابن الملقن

(2)

.

فهذا القائل يذهب إلى تقسيم القراءات إلى ثلاثة أقسام، متواتر، وآحاد صحيح، وشاذ، ولعل من ذهب إلى هذا التقسيم غلب عليه اصطلاح علماء الحديث، ولكل فن اصطلاحه، ودلالته.

وقد ضعف هذا القول السيوطي في الإتقان قائلًا: «وهذا الكلام فيه نظر، يعرف مما سنذكره، وأحسن من تكلم في هذا النوع إمام القراء في زمانه شيخ شيوخنا أبو الخير ابن الجزري

» ثم نقل كلام ابن الجزري السابق

(3)

.

وقيل: القراءات العشر كلها متواترة، وهي موافقة لرسم المصاحف العثمانية، وما زاد على العشر فهو شاذ، كقراءة الأعمش ويحيى بن وثاب، نص عليه ابن عابدين من الحنفية، وهو الأصح عند المالكية، واختاره من الشافعية البغوي، وتقي الدين السبكي وابنه تاج الدين، وكان يذهب إلى هذا القول ابن الجزري، ثم رجع عنه

(4)

.

وذكر البغوي في تفسيره الاتفاق على جواز القراءة بالعشر

(5)

.

يقول ابن الجزري: «الذي وصل إلينا متواترًا وصحيحًا مقطوعًا به قراءات الأئمة العشرة، ورواتهم المشهورين، هذا الذي تحرر من أقوال العلماء، وعليه

(1)

. انظر البرهان في علوم القرآن (1/ 273)، تفسير القاسمي (محاسن التأويل)(1/ 190).

(2)

. الإتقان (1/ 258).

(3)

. الإتقان (1/ 258).

(4)

. انظر منجد المقرئين (ص: 67)، الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/ 258)، البرهان في علوم القرآن (1/ 318)، مباحث في علوم القرآن للقطان (ص: 176)، نشر البنود على مراقي السعود (1/ 85)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/ 437)، حاشية العدوي على الخرشي (2/ 25)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (2/ 19)، لوامع الدرر في هتك أستار المختصر (2/ 455)، جواهر الدرر في حل ألفاظ المختصر (2/ 337)، تحفة المحتاج (2/ 39)، مغني المحتاج (1/ 153)، غاية البيان شرح زبد ابن رسلان (ص: 85)، حاشيتي قليوبي وعميرة (1/ 169)، الحاوي في فقه مذهب الإمام أحمد (1/ 302)،.

(5)

. تفسير البغوي ط إحياء التراث (1/ 55).

ص: 337

الناس اليوم بالشام، والعراق، ومصر، والحجاز

»

(1)

.

ويقول ابن عابدين: «القرآن الذي تجوز به الصلاة بالاتفاق هو المضبوط في مصاحف الأئمة التي بعث بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار، وهو الذي أجمع عليه الأئمة العشرة، وهذا هو المتواتر جملة وتفصيلًا، فما فوق السبعة إلى العشرة غير شاذ، وإنما الشاذ ما وراء العشرة وهو الصحيح، وتمام تحقيق ذلك في فتاوى العلامة قاسم»

(2)

.

وسبب الاختلاف بين الحَدِّ بالسبع أو الحَدِّ بالعشر اعتقادهم أن الشاذ من القراءات ما عدا المتواتر منها، وعليه اختلفوا في تحديد الشاذ لاختلافهم في تحديد المتواتر منها، فمن رأى أن القراءات السبع متواترة، رأى أن ما عداها شاذة، ومن رأى أن العشر كلها متواترة، جعل ما عدا العشر شاذَّةً، ولم يتفق القراء فضلًا عن غيرهم على تواتر جميع آحاد السبع فما بالك بدعوى تواتر آحاد العشر.

ويلزم من هذا القول أن جميع القراءات العشر موافقة لرسم المصحف العثماني، وأسانيدها إلى الأئمة صحيحة، فلا يوجد إذن خلاف بينه وبين القول الذي لا يحد القراءة الصحيحة بأئمة معينين، فالخلاف بينهم إنما هو من باب تحقيق المناط، هل كل قراءة من قراءات الأئمة العشرة موافقة لرسم المصحف العثماني، والطرق إليها كلها صحيحة، وموافقة للغة العربية، فتكون قراءة صحيحة لموافقتها شروط القراءة الصحيحة، بصرف النظر عن دعوى تواترها من غيره، أم أن دعوى أن الطرق إلى هؤلاء الأئمة فيها المتواتر وهو الأغلب، وفيها الآحاد

(1)

. كان هذا قولًا قديمًا لابن الجزري حين كان يذهب إلى اشتراط التواتر في ضابط القراءة الصحيحة، حيث يقول في منجد المقرئين ومرشد الطالبين (ص: 24): «كل قراءة وافقت العربية مطلقًا، ووافقت أحد المصاحف العثمانية، ولو تقديرًا، وتواتر نقلها، هذه هي القراءة المتواترة المقطوع بها» .

ثم رجع عن هذا القول إلى الاكتفاء باشتراط صحة النقل، كما نقلت ذلك عنه سابقًا في صدر هذا البحث، وكما سيأتي النقل عنه صريحًا بأنه رجع عن اشتراط التواتر.

وانظر: تفسير الماتريدي (1/ 60)، حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي (1/ 15)،

(2)

. حاشية ابن عابدين (1/ 486).

ص: 338

الصحيح، وفيها الضعيف، وفيها الموافق لرسم المصحف وهو الأغلب، وفيها المخالف، فلا تتحقق دعوى أن جميع آحاد هذه القراءات فردًا فردًا قد توفرت فيها شروط القراءة الصحيحة، ويكون إطلاق الموافقة وصحة الإسناد أمرًا نسبيًّا، كإطلاق التواتر.

وأما ما زاد على العشر، فيذهب أصحاب هذا القول إلى الحكم بشذوذه مطلقًا، ولو صح الإسناد، ووافقت القراءة رسم المصحف والقواعد العربية.

وهذا خلاف حقيقي في رسم الشاذ، ومخالف للقول الذي يرى أن القراءة الصحيحة ليست محصورة في القراءات العشر، ولا في غيرها، وأن الشاذ ما اختل فيه ركن من أركان القراءة الصحيحة، وهو مذهب الإمام أحمد، نص عليه الإمام كما سبق، ورجحه ابن الجزري، والإمام أبو شامة، ونسبه السيوطي إلى أئمة المحققين من السلف والخلف، وصار إليه الشوكاني.

يقول أبو شامة في المرشد الوجيز: «لا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى أحد السبعة، ويطلق عليها لفظ الصحيحة، وأنها أنزلت هكذا، إلا إذا دخلت في ذلك الضابط، وحينئذٍ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره، ولا يختص ذلك بنقلها عنهم، بل إن نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة، فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف، لا على من تنسب إليه، فإن القراءة المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم، وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم»

(1)

.

وقول أبي شامة والأخير من قولي ابن الجزري هو الصحيح المتعين.

وقد قال حرب: «سألت أحمد عن قراءة حمزة، فقال: لا تعجبني، وكرهها كراهية شديدة»

(2)

.

(1)

. المرشد الوجيز (ص: 174).

(2)

. طبقات الحنابلة (1/ 390)، الجامع لعلوم الإمام أحمد (13/ 433).

ص: 339

ولو كانت متواترة عنده لما كرهها.

وجاء في المغني لابن قدامة: «ولم يكره قراءة أحد من العشرة إلا قراءة حمزة والكسائي؛ لما فيهما من الكسر والإدغام، والتكلف، وزيادة المد»

(1)

.

وفي الفروع: «ولم يكره غيرهما .... وعن أحمد ما يدل على أنه رجع عن الكراهة»

(2)

.

وقال حرب: «سمعت الحميدي يكره قراءة حمزة»

(3)

.

وقال ابن هانئ: «سمعت أبا عبد الله يقول: قال عبد الرحمن بن مهدي: لو صليت خلف من يقرأ قراءة حمزة أعدت الصلاة، أرى أني سمعته يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول ذلك»

(4)

.

وقال الزركشي: «والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة، وأما تواترها عن النبي صلى الله عليه وسلم ففيه نظر، فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد، لم تُكْمِلْ شروط التواتر في استواء الطرفين والواسطة

»

(5)

.

ويقول الإمام أبو شامة في المرشد الوجيز (ت: 665): «غاية ما يبديه مدعي تواتر المشهور منها .... أنه متواتر عن ذلك الإمام الذي نسبت تلك القراءة إليه بعد أن يجهد نفسه في استواء الطرفين والواسطة إلا أنه بقي عليه التواتر من ذلك الإمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كل فرد فرد من ذلك، وهنالك تسكب العبرات، فإنها من ثم لم تنقل إلا آحادًا، إلا اليسير منها»

(6)

.

(1)

. المغني (1/ 354)، وانظر الفروع (2/ 183).

(2)

. الفروع (2/ 183، 184).

(3)

. مسائل حرب الكرماني ت فايز حابس (3/ 1282).

(4)

. مسائل ابن هانئ (1954)، وانظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد (6/ 348).

وجاء في طبقات الحنابلة (2/ 139): قال علي بن عبد الصمد: سألت أحمد بن حنبل عن الصلاة خلف من يقرأ بقراءة حمزة، فقال: أكرهه.

قلت: يا أبا عبد الله، إذا لم يدغم، ولم يكسر؟

قال: إذا لم يدغم، ولم يضجع ذلك الإضجاع، فلا بأس به. اهـ وانظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد (6/ 357).

(5)

. المرجع السابق (1/ 319).

(6)

. المرشد الوجيز (ص: 178).

ص: 340

ويقول ابن الجزري: «وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن، ولم يَكْتَفِ فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر

وهذا مما لا يخفى ما فيه؛ فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره؛ إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترًا عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب قبوله، وقطع بكونه قرآنًا، سواء أوافق الرسم أم خالفه، وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم».

* وأجاب القائلون باشتراط التواتر بأجوبة منها:

الأول: القول بتواتر القراءات، أي من حيث الجملة، ولا يعني هذا التزامه في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القراء، بل القراءات كلها منقسمة إلى متواتر، وغير متواتر، ومن ذلك الخلاف في آية البسملة؛ إذ لو كانت متواترة لم يقع خلاف في قرآنيتها، وقد مر معنا ذكر الخلاف، والراجح فيه.

قال القسطلاني في اللطائف نقلًا من تفسير القاسمي: «اشتراط التواتر بالنظر لمجموع القرآن، وإلا فلو اشترطنا التواتر في كل فرد فرد من أحرف الخلاف انتفى كثير من القراءات الثابتة عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم»

(1)

.

فالقراءات كالحديث، منها ما نقل بالتواتر، ومنها ما نقل بالآحاد، وما نقل بالتواتر ليس بحاجة إلى أسانيد في إثباتها؛ لأن الأسانيد لا يعول عليها في التواتر، وإنما يعول على نقل الكافة عن الكافة، بخلاف الآحاد، وهذا ليس محل خلاف، وإنما الخلاف في دعوى تواتر كل ما ورد في القراءات السبع أو القراءات العشر.

الثاني: لا نزاع بين المسلمين في تواتر القرآن؛ لأن ما بين دفتي المصحف متواتر، مجمع عليه من الأمة في أفضل عهودها، وهو عهد الصحابة، وأما القراءات فمنها المتواتر، ومنها الآحاد، وهذا يرجع إلى التفريق بين القرآن والقراءات، وقد تقدم الاستدلال للتفريق بينهما، وهو قول متعين.

الثالث: أن القراءة إذا صح سندها، ووافقت قواعد اللغة، ثم جاءت موافقة لخط هذا المصحف المتواتر كانت هذه الموافقة قرينة على إفادة هذه الرواية للعلم

(1)

. انظر تفسير القاسمي (محاسن التأويل)(1/ 186).

ص: 341

القاطع، وإن كانت آحادًا.

ولا تنس ما هو مقرر في علم الأثر من أن خبر الآحاد يفيد العلم إذا احتفت به قرينة توجب ذلك

(1)

.

الرابع: نقل القراءة بطريق الآحاد لا يدل على عدم تواترها عن غيرهم، فلقد كان يتلقاه أهل كل بلد يقرؤه منهم الجم الغفير عن مثلهم، والتواتر حاصل بهم، ولكن الأئمة الذي تصدوا لضبط الحروف، وحفظوا شيوخهم منها، وجاء السند من جهتهم قد تكون آحادًا.

قال السخاوي: «ولا يقدح في تواتر القراءات السبع إذا أسندت من طريق الآحاد كما لو قلت: أخبرني فلان، عن فلان أنه رأى مدينة سمرقند (وقد علم وجودها بطريق التواتر) لم يقدح ذلك فيما سبق من العلم بها، فقراءة السبع كلها متواترة»

(2)

.

وجاء في الموسوعة القرآنية: «ليست القراءات كالحديث مخرجها كمخرجه إذا كان مدارها على واحد كانت آحادية- ليس الأمر كذلك- ولكنها إنما نسبت إلى ذلك الإمام اصطلاحًا، وإلا فأهل كل بلدة كانوا يقرؤونها، أخذوها أممًا عن أمم، ولو انفرد واحد بقراءة دون أهل العلم بالقراءات لم يوافقه على ذلك أحد، بل كانوا يجتنبونها ويأمرون باجتنابها»

(3)

.

الخامس: أن الاستفاضة والشهرة تقوم مقام التواتر.

فقد نقل ابن الجزري في النشر عن الإمام الكبير أبي شامة في مرشده أنه قال: «قد شاع عن ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين: أن القراءات السبع كلها متواترة: أي كل فرد فرد مما روى عن هؤلاء السبعة، قالوا: والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب، ونحن بهذا نقول، ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق، واتفقت عليه الفرق من غير نكير له، مع أنه شاع، واشتهر،

(1)

. مناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 427).

(2)

. انظر تفسير القاسمي (1/ 190).

(3)

. الموسوعة القرآنية المتخصصة (ص: 318).

ص: 342

واستفاض، فلا أقل من اشتراط ذلك؛ إذ لم يتفق التواتر في بعضها»

(1)

.

وهذا قريب من الجواب الثالث، والله أعلم.

* الراجح:

أن القراءة الصحيحة ما اجتمع فيها ثلاثة شروط:

الأول: صحة إسنادها، وبعضها أقوى من بعض فما كان متواترًا فهو أقوى من المشهور منها، وما كان مشهورًا فهو أقوى من الآحاد مما لم يشتهر، كالحديث الصحيح، المتواتر أقوى مما اتفق عليه الشيخان، وما اتفق عليه الشيخان أقوى مما انفرد به أحدهما، وما انفرد به البخاري وحده أقوى مما انفرد به مسلم وحده، وهذا في الجملة، لا بالنظر إلى حديث بعينه، كما هو معلوم، وصحة الإسناد تكفي في إفادة العلم إذا اجتمع معها بقية الشروط.

الثاني: أن توافق وجهًا في العربية، ولو مختلفًا فيه.

الثالث: أن توافق رسم المصاحف العثمانية.

وأن القراءة الشاذة: ما خالفت رسم المصاحف العثمانية، مما صح سندها، وكان لها وجه في العربية، فإن استفاضت صحت القراءة بها.

وأما إذا لم يصح إسناد القراءة، وقد خالفت الرسم العثماني، فهذه باطلة، فلا تثبت قراءة فضلًا أن يقرأ بها، بل هي من قبيل الوهم، والله أعلم.

أرجو أن أكون قد جَلَّيتُ هذه المسألة، فإن كان فإنه من توفيق الله لعبده، فله الحمد وله الشكر، وإن كانت الأخرى فلعل عذري أنني أتكلم في غير فني، فَلْيَلتَمِسْ القارئُ الكريم لي العذرَ، وحسبي أني بذلت جهدي والتوفيق بيد الله.

* * *

(1)

. النشر في القراءات العشر (1/ 13).

ص: 343