الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع السادس الجهر ببعض الآيات في الصلاة السرية
المدخل إلى المسألة:
* الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أنها مقصودة، وأفعاله التعبدية على التأسي إلا أن يقوم دليل على الخصوصية.
* لا يسوغ أن يحمل جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالآية أحيانًا على السهو من غير بيان؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يختلط المشروع بغيره.
* لا بأس أن يتعمد الرجل الجهر بالشيء من القرآن؛ لإعلام من خلفه أنه يقرأ لا سيما ممن يُنْظَرُ إلى فعله ويُقْتَدَى به.
* الجهر والإسرار في موضعه من سنن الصلاة، والقول بوجوبه قول ضعيف.
* لا يحفظ في السنة أمرٌ بالجهر والإسرار، والمنقول فعله صلى الله عليه وسلم وأفعاله التعبدية على الاستحباب، لا على الوجوب إلا ما كان منها بيانًا لمجمل واجب.
* ترك المستحب لمصلحة راجحة جائز بقدرها.
* ترك الواجب عمدًا عند الحنفية لا يبطل الصلاة، وقال به المالكية في بعض المسائل.
(ح-1587) روى البخاري من طريق همام، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة،
عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب، وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب ويسمعنا الآية، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الركعة الثانية، وهكذا في العصر وهكذا في الصبح، ورواه مسلم
(1)
.
(1)
. ورواه البخاري (776) ومسلم (155 - 451).
(ح-1588) و روى النسائي، قال: أخبرنا محمد بن إبراهيم بن صدران، قال: حدثنا سلم بن قتيبة قال: حدثنا هاشم بن البريد، عن أبي إسحاق،
عن البراء قال: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فنسمع منه الآية بعد الآيات من سورة لقمان، والذاريات
(1)
.
[حسن إن سلم من الاختلاف على سلم بن قتيبة، ويشهد له حديث أبي قتادة في الصحيحين]
(2)
.
فقول أبي قتادة: (ويسمعنا الآية أحيانًا) قوله: (أحيانًا) يدل على تكرار ذلك منه، واختلفوا في ذلك: أكان ذلك من غير قصد، وإنما وقع سبق لسان؛ للاستغراق في التدبر، أم كان ذلك عن قصد؟
وإذا كانت مقصودة: أكان يقصد صلى الله عليه وسلم إخبارهم بأنه يقرأ حتى لا يظن أحد أن المشروع السكوت بلا قراءة، أم أن المقصود لكي يقفوا على السورة التي كان يقرأ بها للتأسي، أم من أجل أن ينتبه غافلهم، أم أراد بذلك بيان جواز الجهر ببعض الآي في السرية؟ كل ذلك قيل به، ولا منافاة من إرادتها كلها أو أكثرها، وبعضها أرجح من بعض، وهل يؤخذ من الجهر بالآية جواز الجهر بالسرية والإخفات في الجهرية، أم يقال: إن الجهر في الآية جهر خفيف دون الجهر المعتاد، ومقدارها يسير فلا يستدل به على جواز الجهر بجميع قراءة الصلاة السرية، كل هذا كان محل بحث بين فقهائنا
(3)
.
[م-606] إذا عرفت ذلك فتعال نقف على بعض كلام أهل العلم في المسألة:
قال الحنفية: الإخفات والجهر واجب في موضعه فلا يجهر ولو بكلمة واحدة
(4)
.
(1)
. المجتبى من سنن النسائي (971)، وفي السنن الكبرى له أيضًا (1045).
(2)
. سبق تخريجه، انظر (ح 1580).
(3)
. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 175)، فتح الباري لابن رجب (7/ 86)، فتح الباري لابن حجر (2/ 245)، شرح أبي داود للعيني (3/ 457)، عمدة القارئ (6/ 15)، منحة الباري بشرح البخاري (2/ 469)،.
(4)
. حاشية ابن عابدين (2/ 81، 82)، بدائع الصنائع (1/ 166)، الأصل (1/ 228)، مختصر اختلاف العلماء (1/ 275)، تحفة الفقهاء (1/ 130).
قال في العناية: «الجهر في موضعه والمخافتة في موضعها من الواجبات»
(1)
.
فإن جهر عامدًا سواء أكان إمامًا أم منفردًا فقد أساء، وصلاته تامة، وإن جهر ساهيًا، وكان إمامًا وجب عليه سجود السهو بخلاف المنفرد.
واختلف الحنفية في مقدار ما يتعلق به سجود السهو.
فقيل: إذا جهر بكلمة واحدة، وجب عليه سجود السهو، وهذا هو ظاهر الرواية
(2)
.
قال ابن نجيم: «ظاهر الرواية وجوب السجود على الإمام إذا جهر فيما يخافت أو خَافَتَ فيما يجهر قَلَّ ذلك أو كَثُرَ وكذا في الظهيرية والذخيرة زاد في الخلاصة وعليه اعتماد شمس الأئمة الحلواني
…
»
(3)
.
* وجه ظاهر الرواية:
أن فرض القراءة عند أبي حنيفة يتأدى بآية واحدة، وإن كانت قصيرة، فإذا غير صفة القراءة في هذا القدر تعلق به السهو.
وروي عن أبي يوسف: أنه إذا جهر بحرف واحد سجد
(4)
.
وحديث أبي قتادة رد عليهما
(5)
.
وقيل: إذا جهر بآية تامة، وتركوا ظاهر الرواية؛ لما فيها من الشدة، فالقليل عفو كما يدل عليه حديث أبي قتادة.
وتَأَوَّلُوا قوله: (ويسمعنا الآية أحيانًا) بأن الجهر بالآية لا يستلزم الجهر بتمامها، فإنك تقول: ضربت زيدًا، مع أنك لا تضرب إلا بعضه.
(1)
. العناية شرح الهداية (1/ 504).
(2)
. فيض الباري (2/ 352).
(3)
. البحر الرائق (1/ 104).
(4)
. بدائع الصنائع (1/ 166)، تحفة الفقهاء (1/ 212).
(5)
. قال في العناية (1/ 504): «ولو جهر فيما يخافت، أو خافت فيما يجهر تلزمه سجدتا السهو؛ لأن الجهر في موضعه والمخافتة في موضعها من الواجبات» .
وانظر: بدائع الصنائع (1/ 160)، البحر الرائق (1/ 355)، حاشية ابن عابدين (1/ 532)، مراقي الفلاح (ص: 95)، تحفة الفقهاء (1/ 96)، مجمع الأنهر (1/ 103)، كنز الدقائق (ص: 160)، المنتقى شرح الموطأ (1/ 161)، النوادر والزيادات (1/ 354).
وقال ابن الهمام: «الاحتراز عن الجهر بالكلية منها متعسر، فإن في مبادئ التنفسات غالبًا يظهر الصوت، وفي الحديث: (وكان يسمعنا الآية أحيانًا) وهو والله أعلم بهذا السبب»
(1)
.
وهذا الحمل ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فعله غير مقصود، بحيث يظهر الصوت عند مبادئ التنفس بلا قصد مع قول الصحابي:(ويسمعنا)، وسوف أبين ضعف هذا الاحتمال عند عرض مذهب السادة الشافعية.
وقيل: إذا جهر بما يتأدى به فرض القراءة وهي عندهما (أبي يوسف ومحمد) آية طويلة، أو ثلاث آيات قصار، فإن جهر بأَقَلَّ من ذلك لم يتعلق به سجود السهو
(2)
.
قال ابن نجيم في البحر: «اختلف الترجيح على ثلاثة أقوال، وينبغي عدم العدول عن ظاهر الرواية الذي نقله الثقات من أصحاب الفتاوى»
(3)
.
زاد المصنف في منحه نقلًا من حاشية ابن عابدين: «وأنا أعجب من كثير من كُمَّلِ الرجال كيف يعدل عن ظاهر الرواية الذي هو بمنزلة نص صاحب المذهب إلى ما هو كالرواية الشاذة. اهـ.
فتعقب ذلك ابن عابدين بقوله: لا عجب من كُمَّلِ الرجال كصاحب الهداية والزيلعي وابن الهمام حيث عدلوا عن ظاهر الرواية لما فيه من الحرج، وصححوا الرواية الأخرى للتسهيل على الأمة، وكم له من نظير ولذا قال القهستاني: ويجب السهو بمخافتة كلمة لكن فيه شدة. وقال في شرح المنية: والصحيح ظاهر الرواية، وهو التقدير بما تجوز به الصلاة من غير تفرقة؛ لأن القليل من الجهر في موضع المخافتة عفو أيضًا؛ ففي حديث أبي قتادة في الصحيحين
…
(ويسمعنا الآية أحيانًا). ا هـ.
ففيه التصريح بأن ما صححه في الهداية ظاهر الرواية أيضًا، فإن ثبت ذلك فلا كلام، وإلا فوجه تصحيحه ما قلنا، وَتَأَيُّدُهُ بحديث الصحيحين، وقد قدمنا في
(1)
. فتح القدير (1/ 505)، وانظر: حاشيةالطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 253).
(2)
. بدائع الصنائع (1/ 166)، حاشية ابن عابدين (2/ 82)، تحفة الفقهاء (1/ 212)، فيض الباري (2/ 115).
(3)
. البحر الرائق (1/ 104، 105).
واجبات الصلاة عن شرح المنية: «أنه لا ينبغي أن يعدل عن الدراية أي الدليل إذا وافقتها رواية»
(1)
.
* واختلف جواب الحنفية عن حديث أبي قتادة: (ويسمعنا الآية أحيانًا).
فقال بعضهم: إنه كان لتعليم ما يقرأ، لا أن الجهر في نفسه مقصود، فلا يكون الحديث دليلًا على أن الجهر في نفسه سنة، كما كان يجهر بعض الصحابة بالتسمية، وبدعاء الاستفتاح ولم يكن الجهر بهما سنة بل تعليمًا بأنه يقرأ
(2)
.
وهذا الجواب من أقوى الأجوبة، لكنه لا يخلص الحنفية، فلو كان الإخفات والجهر واجبين في محلهما لما جهر النبي صلى الله عليه وسلم في السرية من أجل التعليم، فلا يتصور ارتكاب الحرام مع إمكان التعليم بالقول خارج الصلاة، وهو أبلغ من التعليم بالفعل؛ لأن الفعل يدخله من الاحتمالات ما لا يدخل القول.
وقال علي القارئ الحنفي في شرح المشكاة: قوله: (وكان يسمعنا الآية أحيانًا) لا يجوز حمله على بيان الجواز؛ لأن الجهر والإخفاء واجبان على الإمام، إلا أن يراد ببيان الجواز سماع الآية أو الآيتين لا يخرجه عن السر
(3)
.
وقال في بدائع الصنائع: «لما ورد الحديث مُقَدَّرًا بآية أو آيتين ولم يرد بأزيد من ذلك كانت الزيادة تركًا للواجب، فيوجب السهو»
(4)
.
* وَيَرِدُ عليه:
بأن الجهر لا يخلو إما أن يكون مباحًا، فالكثير منه والقليل سواء، أو يكون محظورًا، فالقليل والكثير منه سواء، ولا يجوز أن يُفَرَّق في الحرام بين القليل والكثير إلا بنص يعتمد عليه في التفريق، والأصل أن إباحة القليل دليل على إباحة
(1)
. حاشية ابن عابدين (2/ 82).
(2)
. فيض الباري (2/ 352)، وانظر: شرح المصابيح لابن الملك (1/ 496).
وقال الحسين بن محمود الشيرازي الحنفي في المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 129): قوله: (ويسمعنا الآية أحيانًا) يعني يقرأ في صلاة الظهر سِرًّا، وربما يرفع صوته ببعض كلمات الفاتحة، أو السورة بحيث نَسْمَعُ حتى نعلم ما يقرأ من السورة».
(3)
. انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 688).
(4)
. بدائع الصنائع (1/ 166).
الكثير، هذا إذا كان الحنفية يقولون بإباحة الجهر في الآية والآيتين، فلا علاقة في مذهبهم بين ترتب السجود على الفعل وبين إباحة الفعل؛ لأن السجود متعلق بفعله سهوًا، والساهي لا إثم عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ساهيًا، بدليل قول الصحابي:(ويسمعنا الآية أحيانًا) أي يقصد إسماعهم، والتحريم عند الحنفية يتعلق بفعله عامدًا، والعامد لا سجود عليه، ولو كان كثيرًا.
ولهذا جاء في التجريد للقدوري: «أن هذا فَعَلَه -يعني النبي صلى الله عليه وسلم على وجه العمد، وعندنا لا يثبت السجود فيما تعمده»
(1)
.
وهذا الجواب قد يدفع الإيراد عليهم بعدم سجود النبي صلى الله عليه وسلم للسهو، ولكنه لا يُخَلِّصهم من القول بأن من جهر في صلاته عامدًا فقد أساء، فإن جهر النبي صلى الله عليه وسلم أَقَلُّ ما يدل عليه هو الجواز، إن لم يدل على الاستحباب.
وذكر في الخلاصة نقلًا من البحر الرائق: «أنه لو أسمع رجلًا أو رجلين لا يكون جهرًا، والجهر أن يسمع الكل»
(2)
.
وهذا من أضعفها؛ فهل يقول الحنفية فيما يجب فيه الجهر عندهم أنه لو أسمع بعض المأمومين لا يكون قائمًا بالواجب حتى يسمع الكل؟.
ولأن قول الصحابي: (ويسمعنا الآية)، ظاهره أنه يسمع جميع المصلين وأَقَلُّه أنه قد أسمع أغلبهم، لا بعضهم.
هذا ملخص الأقوال في مذهب الحنفية، وكلامهم في مسألتين:
إحداهما: أن الجهر والإخفات في موضعه واجب مطلقًا، فلا يجهر ولو بكلمة واحدة.
الثانية: أنهم قد اختلفوا فيما يتعلق به سجود السهو، فقيل: إذا جهر بكلمة، وقيل: بحرف، وقيل: بآية ولو قصيرة، وقيل: بآية طويلة أو ثلاث آيات قصيرة.
والحق أن الجهر لا يتعلق به سجود سهو، سواء أكان ذلك بقدر ما جهر به النبي صلى الله عليه وسلم، أم كان بأكثر من ذلك، وسواء أكان ساهيًا أم كان عامدًا، فلم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
. التجريد للقدوري (2/ 708).
(2)
. البحر الرائق (2/ 105).
حين جهر، ولو كان يختلف الحكم إذا زاد في جهره على مقدار الآية لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد فصلت حكم الجهر بالقراءة في مسألة مستقلة سابقة، فارجع إليه إن رمت الوقوف على أدلتهم.
وقيل: الإسرار في السرية شرط لصحة الصلاة، قال ابن أبي ليلى: من جهر فيما يسر به أعاد بهم الصلاة إن كان إمامًا
(1)
.
وهذا القول شاذ، فإن الجهر والإسرار ليس فيهما إلا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يحفظ في السنة أمر منه بهما، وأفعاله التعبدية على الاستحباب، لا على الوجوب، إلا ما كان منها بيانًا لمجمل واجب، وليس هذا منها.
وقال ابن بطال: «وفى قول أبى قتادة: وكان يسمعنا الآية أحيانًا: دليل أنه كان ذلك من فعله على القصد إليه والمداومة عليه»
(2)
.
واعتبر القاضي عياض: أن الجهر بالآية في الصلاة السرية دون الجهر المعتاد بالصلوات الجهرية، وهو نوع من الجهر الخفيف، فإذا جهر بهذه الصفة فلا شيء فيه
(3)
.
هل أراد القاضي عياض أن يقول: إن الجهر الخفيف لا يعطى حكم الجهر، إن كان أراد ذلك فهو قول ضعيف، ومخالف للمذهب.
فالمالكية يرون أن أدنى الجهر أن يسمع نفسه، ومن يليه
(4)
، وقد قال أبو قتادة: ويسمعنا الآية، فعبر بلفظ الجمع، فهو مقطوع بإسماع من يليه.
وقال الشافعي: «لا نرى بأسًا أن يتعمد الرجل الجهر بالشيء من القرآن؛ ليعلم من خلفه أنه يقرأ»
(5)
.
(1)
. المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 354).
(2)
. شرح البخاري لابن بطال (2/ 377).
(3)
. انظر إكمال المعلم (2/ 367).
(4)
. شرح ابن ناجي على الرسالة (1/ 160)، مواهب الجليل (1/ 525)، شرح الخرشي (1/ 275)، حاشية الدسوقي (1/ 276).
(5)
. معرفة السنن والآثار (3/ 291)، وانظر فتح الباري (7/ 86).
ونفي البأس غاية ما يدل عليه هو الإباحة، وليس الاستحباب.
وقال ابن دقيق العيد: «الجهر بالشيء اليسير من الآيات في الصلاة السرية جائز مغتفر، لا يوجب سهوًا يقتضي السجود»
(1)
.
فجعله من الجائز المغتفر، وليس من الأمور المطلوب فعلها.
كما أن الشافعي يرى أن المقصود بالجهر ليس الجهر نفسه، وإنما لإعلام من خلفه أنه يقرأ، وحتى لا يظن أحد أن المشروع في الصلاة السرية السكوت بلا قراءة، كما ظن ذلك ابن عباس، فكان يسمعهم الآية أحيانًا لغرض التعليم، كما جهر بعض الصحابة بدعاء الاستفتاح لغرض التعليم، وليس الجهر فيه من السنة.
(2)
.
فهنا النووي جزم بأن الفعل لبيان الجواز، وساق القول بأنه فعله من غير قصد احتمالًا بصيغة التمريض، وفي شرح المهذب سوَّى بينهما.
(3)
.
فالقول بأنه سبق لسان قول ضعيف؛ لأن الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أنها مقصودة، وأفعاله التعبدية على التأسي، وحَمْلُ فعله على السهو من غير بيان لا يسوغ؛ لأنه يؤدي إلى أن يختلط المشروع بغيره، فلووقع من غير قصد لجاء البيان حفظًا للشريعة من التلبيس والخلط، وقد تعهد الله بحفظ الشريعة، وهذا ما فهمه الصحابي رضي الله عنه من قوله:(يُسْمِعُنا) دليل على أن المصطفى كان يتقصد إسماعهم، والنووي أَخَّر هذا القول وساقه بصيغة التمريض، وعلى طريقة
(1)
. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 226).
(2)
. شرح النووي على مسلم (4/ 175).
(3)
. المجموع شرح المهذب (3/ 386).
الاحتمال، فلم يكن هذا القول مقدمًا عند النووي.
والجزم بأنه جهر من أجل بيان الجواز قول ضعيف والله أعلم، فالأقوى منه القول بأنه أراد ليُعْلِمَ الأمة أنه يقرأ، وليقفوا على السورة التي كان يقرأ بها للتأسي، فإن حاجة الأمة إلى معرفة هذا لصحة صلاتهم أشد من حاجتهم إلى معرفة جواز الجهر بالسِّريَّة، فإنه لو لم يعرفه المصلي ما ضَرَّ صلاته، ولو كان الفعل لبيان جواز الجهر لجهر النبي صلى الله عليه وسلم بكل القراءة، ولما اقتصر على آية منها، خاصة أن الجهر بآية لا ينافي السرية، فلا دلالة فيه صريحة على جواز الجهر بكامل القراءة إلا عن طريق دلالة القياس، وذلك بالقول بجواز الجهر بكامل القراءة قياسًا على جواز الجهر بالآية منها، وقد ينازع المخالف بهذه الدلالة.
قال ابن رجب: قوله: (كان يسمعنا الآية أحيانًا): ظاهره: أنه كان يقصد ذلك، وقد يكون فعله ليعلمهم أنه يقرأ في الظهر والعصر، فإنه حصل لبعضهم شَكٌّ في ذلك»
(1)
.
قلت: يقصد به ابن عباس،
(ح-1589) فقد روى أحمد وأصحاب السنن وغيرهم من طريق موسى بن سالم أبي جهضم، عن عبد الله بن عبيد الله، قال:
دخلت على ابن عباس، في شباب من بني هاشم فقلنا لشاب منا: سَلِ ابن عباس أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا، لا، فقيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه، فقال: خَمْشًا هذه شَرٌّ من الأولى، كان عبدًا مأمورًا بَلَّغَ ما أرسل به، وما اختصنا دون الناس بشيء إلا بثلاث خصال: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي الحمار على الفرس.
[صحيح]
(2)
.
(1)
. فتح الباري لابن رجب (7/ 86).
(2)
. رواه إسماعيل بن علية كما في مسند أحمد (1/ 225)، وسنن الترمذي (1701)، ومشكل الآثار للطحاوي (218)، ومسند أحمد بن منيع (إتحاف الخيرة 534).
ووهيب بن خالد كما في مسند الإمام أحمد (1/ 249)،
وعبد الوارث كما في سنن أبي داود (808)، ومن طريقه البيهقي (10/ 40).
ثلاثتهم رووه عن موسى بن سالم أبي جهضم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن ابن عباس، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وسنده صحيح، وهذا هو المحفوظ أنه عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن أبيه.
ورواه حماد بن زيد، واختلف عليه:
فرواه يحيى بن حبيب بن عربي كما في سنن النسائي (141)، وفي الكبرى له (137)، والسنن الكبرى للبيهقي (7/ 47، 48)،
وحميد بن مسعدة كما في المجتبى من سنن النسائي (3581)، وفي الكبرى له (4406)، ومشكل الآثار للطحاوي (217).
وأحمد بن عبدة كما في سنن ابن ماجه (426)، وصحيح ابن خزيمة (175)،
وسليمان بن حرب، كما في مشكل الآثار (216)، وشرح معاني الآثار (3/ 271)، أربعتهم رووه عن حماد بن زيد، به، فقالوا: عن عبد الله بن عبيد الله موافقًا لرواية الجماعة، وهو المحفوظ.
وخالفهم كل من:
مسدد بن مسرهد كما في سنن الدارمي (727)، وغريب الحديث لأبي إسحاق الحربي مختصرًا (2/ 406).
ومحمد بن أبي بكر المقدمي كما في المعجم الكبير للطبراني (10/ 273) ح 10642.
ومحمد بن عيسى الطباع كما في الثاني من أجزاء أبي علي بن شاذان (40)، وذكر ذلك المزي في تهذيب الكمال (15/ 254).
ومرجَّى بن رجاءكما في مشكل الآثار (229)، وشرح معاني الآثار (2/ 4).
وأسد بن موسى، كما في شرح معاني الآثار (2/ 4)، وأحكام القرآن للطحاوي (785)، خمستهم رووه عن حماد بن زيد، عن أبي الجهضم، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، فجعلوه عن (عبيد الله بن عبد الله) وهو وهم.
إلا أن أسد بن موسى ومحمد بن أبي بكر روي عنهما أيضًا على الصواب (عبد الله بن عبيد الله).
فقد أعاد الطحاوي رواية أسد بن موسى في شرح معاني الآثار (3/ 271) فذكر (عبد الله بن عبيد الله) على الصواب.
كما رواه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 47، 48) من طريق محمد بن أبي بكر مقرونًا بيحيى بن حبيب بن عربي، كرواية الجماعة (عبد الله بن عبيد الله) ولعله حمله على رواية حبيب.
ورواه سعيد بن زيد مقرونًا مع أخيه حماد بن زيد، عن أبي جهضم موسى بن سالم، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس.
رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 4)، وفي أحكام القرآن (785)، من طريق أسد بن موسى، قال: حدثنا سعيد وحماد ابنا زيد به.
ورواه الثوري، وحماد بن سلمة، عن أبي الجهضم، عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، عن ابن عباس. فوهما في اسمه.
فأما رواية الثوري، عن أبي الجهضم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فرواها أحمد (1/ 2232)، والترمذي في العلل الكبير (28)، والطبراني في الكبير (10/ 273) ح 10643، عن وكيع،
والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 40) من طريق محمد بن كثير العبدي، كلاهما (وكيع والعبدي)، عن سفيان، عن أبي الجهضم، عن عبيد الله بن عبد الله به، بلفظ: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسباغ الوضوء.
زاد البيهقي: ونهانا -ولا أقول: نهاكم- أن نأكل الصدقة، ولا نُنْزِيَ حمارًا على فرس.
ورواه أحمد (1/ 234)، وابن أبي شيبة في المصنف (33704)، عن وكيع به، بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُنْزِيَ حمارًا على فرس.
وخالف وكيعًا والعبدي في إسناده، كل من:
عبد الرزاق كما في التفسير (1097)، وفي المصنف (6941)(وفي إسناد المصنف سقط، صححته من التفسير).
ومحمد بن يوسف الفريابي كما في مستخرج الطوسي على الترمذي (1435) كلاهما (عبد الرزاق، ومحمد بن يوسف) روياه عن الثوري عن أبي جهضم سالم البصري، عن رجل، (زاد الطوسي: من ولد العباس) عن ابن عباس قال: «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول نهاكم - أن نُنْزِيَ حمارًا على فرس، وأمرنا أن نسبغ الوضوء، ولا نأكل الصدقة.
ولفظ الطوسي: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُنْزِيَ الْحُمُرَ على الخيل.
والمبهم في روايتهما قد بينه وكيع، والعبدي، وأنه عبد الله بن عبيد الله إلا أن الثوري أخطأ في اسمه، فقال: عبيد الله بن عبد الله.
قال الترمذي في سننه (4/ 205): «روى سفيان الثوري هذا، عن أبي جهضم، فقال: عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، عن ابن عباس وسمعت محمدًا (يعني: البخاري) يقول: حديث الثوري غير محفوظ، ووهم فيه الثوري، والصحيح ما روى إسماعيل بن علية، وعبد الوارث بن سعيد، عن أبي جهضم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن ابن عباس. اهـ
وقال نحوه في العلل الكبير (ص: 38).
وتعقب ذلك المزي، فقال في تهذيب الكمال (15/ 254):«وفي نسبة الوهم إلى الثوري نظر؛ فإن حماد بن سلمة رواه عن أبي جهضم مثل رواية الثوري. وكذلك رواه محمد بن عيسى بن الطباع، عن حماد بن زيد» . اهـ
وأما رواية حماد بن سلمة، عن أبي الجهضم:
فرواها الطيالسي في مسنده (2723)، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي جهضم موسى بن سالم، عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: قيل له: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس؟، فقال: لا، إلا ثلاث، أمرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي الحمار على الفرس. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= هكذا قال: (عن أبيه) والصواب: أنه من رواية عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عمه عبد الله بن عباس.
ورواه مسدد في مسنده كما في إتحاف الخيرة (1076) حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي جهضم، عن عبيد الله بن عبد الله، قال: كنا جلوسًا عند ابن عباس، فسأله رجل
…
وذكر الحديث.
وكان قد رواه مسدد كما في إتحاف الخيرة (534) في كتاب الطهارة باب المحافظة على الوضوء، فرواه عن حماد به، وقال: عبد الله بن عبيد الله على الصواب.
وقد خَطَّأ أبو زرعة وأبو حاتم الرازي حماد بن سلمة كما في العلل لابن أبي حاتم (1/ 465) رقم: 44.
وخطأ البخاري الثوري فيما نقله عنه الترمذي،
وقد تابع الثوري وحماد بن سلمة تابعهم حماد بن زيد في إحدى روايتيه: من رواية مسدد ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن عيسى الطَّبَّاع عنه،
وكذلك روى معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي جهضم، فقال: عبيد الله بن عبد الله، ذكر ذلك ابن حبان في الثقات (5/ 70)، والذهبي في الثقات مما لم يقع في الكتب الستة (7439).
فهذا الثوري وهشام الدستوائي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد في إحدى روايتيه، يتفقون على ذكر (عبيد الله بن عبد الله بن عباس) فإما أن يكون الخطأ من هؤلاء جميعًا، وإما أن يكون الخطأ ممن حدثهم، فتكون العهدة على أبي جهضم، فهو وإن كان ثقة فإن الخطأ على الواحد أقرب من الخطأ على الجماعة.
قال أحمد: أبو جهضم موسى بن سالم: ليس به بأس. قلت له: ثقة؟ قال: نعم. كما وثقه ابن معين وأبو زرعة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، صدوق، مثله لا يقارن بالثوري وهشام، وحماد بن زيد، ومعهم حماد بن سلمة، والله أعلم.
فإذا علمت هذا الاختلاف في إسناده: أهو من رواية عبد الله بن عبيد الله بن عباس (الثقة)، عن عمه عبد الله بن عباس، أم هو من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عباس (فيه جهالة) عن أبيه؟
وعبيد الله بن عبد الله بن عباس ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/ 320)، وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئًا. وذكره ابن حبان في ثقاته (5/ 69)، وما ذكر في ثقات ابن حبان دون توثيق ليس في درجة من عرفه ابن حبان ووثقه، ففيه جهالة.
وقد رجح البخاري وأبو حاتم وأبو زرعة أنه من رواية عبد الله بن عبيد الله بن عباس، فيكون الحديث صحيحًا، وقد صحح الحديث الترمذي في السنن، فقال: حسن صحيح.
وصححه ابن خزيمة حيث أخرجه في صحيحه.
وصححه النووي في المجموع (3/ 361).
وإذا رجحنا أنه من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عباس المجهول فلم ينفرد به عن ابن عباس، فقد تابعه عكرمة عن ابن عباس، فكان الحديث صحيحًا، لا شك في صحته إن شاء الله تعالى إلا أنه قد رواه عنه على الشك: لا يدري أكان يقرأ أم لا؟ والشك في مشروعية العبادة كالجزم بعدم مشروعيتها؛ لأن كُلًّا منهما يؤدي إلى القول بعدم المشروعية، لأن الأصل في العبادات المنع، لكن ابن عباس أحيانًا يجزم بعدم قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحيانًا يكون أكثر دقة في الحكم بحيث يقول: لا تقرأ؛ لأني لا أدري أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ أم لا.
رووه من هذا الطريق على الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ في الصلاة السرية.
وجاء عنه على الشك، بأنه لا يدري أكان يقرأ أم لا.
(ح-1590) رواه أحمد وأبو داود من طريق هشيم، أخبرنا حصين، عن عكرمة،
عن ابن عباس، قال: قد حفظت السُّنَّةَ كلها غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ في الظهر والعصر، أم لا .... الحديث
(1)
.
[صحيح]
(2)
.
(1)
. مسند أحمد (2/ 249)، وأبو داود في السنن (809).
(2)
. الأثر مداره على عكرمة، عن ابن عباس.
رواه حصين، عن عكرمة به، بلفظ:(قد حفظت السنة كلها غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا .... ). الحديث.
رواه أحمد (1/ 249)، وأبو داود في السنن (809)، والطبري في تفسيره (15/ 465)، وأبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن (ص: 362)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 205)، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين (2/ 130)، من طريق هشيم.
ورواه أحمد (1/ 257) من طريق جرير، كلاهما عن حصين عن عكرمة به.
ورواه أيوب، عن عكرمة به، بلفظ:(قرأ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر وسكت فيما أمر، {وما كان ربك نَسِيًّا} [مريم: 64] {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]).
رواه البخاري (774)، وأحمد (1/ 360) عن إسماعيل بن علية.
ورواه أحمد (1/ 334) من طريق عبد الوارث، كلاهما عن أيوب، عن عكرمة به.
ورواه أبو يزيد المدني، عن عكرمة به، بلفظ:(قرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم، في صلوات وسكت، فنقرأ فيما قرأ فيهن نبي الله، ونسكت فيما سكت، فقيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه؟ فغضب منها، وقال: أيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟).
رواه سعيد بن أبي عروبة كما في مسند أحمد (1/ 248)، والمعجم الكبير للطبراني (11/ 357) ح 12005، كلاهما (ابن أبي عروبة وجرير) عن أبي يزيد المدني به.
ورواه الحكم بن أبان، عن عكرمة، بلفظ:(لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الظهر والعصر، ولم يأمرنا، وقد بلَّغ).
رواه الطبراني في الكبير (11/ 240) ح 11611، حدثنا علي بن المبارك الصنعاني، حدثنا زيد بن المبارك، حدثنا موسى بن عبد العزيز العدني، حدثنا الحكم بن أبان به.
وهذا سند صالح في المتابعات، والله أعلم.
فلعل ابن عباس يجزم أحيانًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ؛ لأنه الأصل، وأحيانًا يسوقه بالشك لعدم ثبوت القراءة عنده، والشك والجزم يؤديان إلى القول بعدم مشروعية القراءة.
وصح عن ابن عباس القول بالقراءة في الصلاة السرية، فعلى هذا يكون المحفوظ عن ابن عباس قولين في المسألة
(1)
.
وكون ابن عباس لم يقف على سنة القراءة، فإن من عَلِم حجةٌ على من لم يعلم، وإذا وقفت على غياب مثل هذه السنة الجلية عن ابن عباس، فاعتبر منها بأمرين:
أحدهما: التماس العذر في غياب بعض السنن عن بعض الأئمة، فلا تثريب بعد ذلك على أحد من أهل العلم إذا جهل سنة من السنن، فلا يستغرب خفاء أي شيء على أي عالم مهما يبلغ بعد هذه المسألة، فالله سبحانه وتعالى أبى أن يكون الكمال إلا له وحده، وفوق كل ذي علم عليم.
الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قد يمتحن بعض الناس إذا خالف إمامهم سنة من السنن، أيتبعون إمامهم، أم يتبعون السنة؟ كما قال عمار عن عائشة: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم؛ لتتبعوه أو إياها. رواه البخاري
(2)
.
ومع سعة علم ابن عباس وفقهه لم يكن يتوسع بالقياس وإلا لقال بقياس السرية على الجهرية حيث لم يبلغه نص في السرية.
(ح-1951) وأما ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سلمة، عن الحسن يعني العرني، قال:
قال ابن عباس ما ندري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ في الظهر
(1)
. روى إسماعيل بن أبي خالد، عن العيزار بن حريث، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: اقرأ خلف الإمام بفاتحة الكتاب في الظهر، والعصر.
وهذا سنده صحيح، وقد سبق تخريجه في القراءة خلف الإمام من المجلد السابق، وفي هذا دليل على أن لابن عباس قولًا آخر يرى فيه قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة السرية، وقوله هذا الموافق للسنة، والموافق لقول عامة الأمة أولى من قوله الآخر، والله أعلم.
(2)
. صحيح البخاري (3772).
والعصر؟ ولكنا نقرأ
(1)
.
قال ابن الجوزي: «قوله: (ويسمعنا الآية أحيانًا):
…
وذلك لا يخرج الصلاة عن كونها صلاة إخفاء»
(2)
.
هذا أهم ما وقفت عليه من كلام فقهائنا عليهم رحمة الله تعالى، وهو يدور على احتمالين:
أحدهما: أكان حصول هذا بقصد من النبي صلى الله عليه وسلم أم كان سماع أبي قتادة لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم لقربه منه، ولا يعني هذا أنه قصد الجهر بها، وقد تَسْمَعُ أحيانًا بعضَ قراءة من بجانبك، أو تسبيحه أو دعاءه، وإن لم يقصد بذلك الجهر، فلا يلزم من سماع قراءة بعض الآي من الإمام أن يكون قصد بذلك الجهر.
ويشكل على الثاني: أن ظاهر قول الصحابي: (ويسمعنا الآية)، أنه يسمع جميع المصلين لا بعضهم، وأنه يقصد إسماعهم، وهو الاحتمال الأقوى؟
الثاني: اختلافهم في الباعث على الجهر، والراجح فيه أن الجهر لإعلامهم بمشروعية القراءة في السرية، والوقوف على السورة التي كان يقرأ بها للتأسي بفعله صلى الله عليه وسلم، وأما القول بأنه فعله لبيان أن الإسرار في السرية سنة؛ وليس بواجب، فهو قول مرجوح، لأن ذلك لو كان هو المقصود لجهر بالقراءة كلها، ولم يقتصر بالجهر على آية من القراءة؛ لأن الجهر بالآية لا يخرج صلاته عن حد الإسرار، فلم يحصل المقصود من الجهر، والله أعلم.
* * *
(1)
. المسند (1/ 234)، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (3637)، ومن طريقه الطبراني في الكبير (12/ 139) ح 12700، عن وكيع به.
وهذا إسناد منقطع، قال عبد الله بن أحمد كما في العلل ومعرفة الرجال (1/ 143): سمعت أبي يقول الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس شيئًا.
وانظر: التاريخ الأوسط (1/ 296)، المراسيل (155).
(2)
. كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 142).