الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(كِتَابُ الوَقْفِ)
يُقالُ: وَقَفَ الشيءَ، وحَبَسَه، وأَحْبَسَهُ (1)، وسبَّلَه بمعنى واحد، وأَوْقَفَه لغةٌ شاذةٌ.
وهو مما اختصَّ به المسلمون، ومِن القُرَبِ المندوبِ إليها.
(وَهُوَ تَحْبِيسُ الأَصْلِ وَتَسْبِيلُ المَنْفَعَةِ) على برٍ أو قرابةٍ، والمرادُ بالأصلِ: مالٌ يُمكِنُ الانتفاعُ به مع بقاءِ عَيْنِه.
وشرطُهُ: أن يكونَ الواقفُ جائزَ التصرُّفِ.
(وَيَصِحُّ) الوقفُ (بِالقَوْلِ، وَبِالفِعْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ) عُرفاً؛ (كَمَنْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَسْجِداً وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ)، أو أذَّنَ فيه وأقَام، (أَوْ) جَعَل أرضَه (مَقْبَرَةً وَأَذِنَ) للناسِ (فِي الدَّفْنِ فِيهَا)، أو سقايةً وشَرَعَها لهم؛ لأنَّ العُرفَ جارٍ بذلك، وفيه دلالةٌ على الوقفِ.
(وَصَرِيحُهُ)، أي: صريحُ القولِ: (وَقَفْتُ، وَحَبَّسْتُ، وَسَبَّلْتُ)، فمتى أتَى بصيغةٍ منها صار وقفاً مِن غيرِ انضمامِ أمرٍ زائدٍ.
(وَكِنَايَتُهُ: تَصَدَّقْتُ، وَحَرَّمْتُ، وَأَبَّدْتُ)؛ لأنَّه لم يَثبُتْ لها فيه عُرفٌ لغويٌّ ولا شرعيٌّ.
(1) قوله: (وأحبسه) ساقطة من (ع).
(فَتُشْتَرَطُ النِّيَّةُ مَعَ الكِنَايَةِ، أَوِ اقْتِرَانُ) الكنايةِ (بأَحَدِ (1) الأَلْفَاظِ الخَمْسَةِ) الباقيةِ مِن الصَّريحِ والكنايةِ، كتصدَّقتُ بكذا صدقةً موقوفةً، أو محبَّسةً، أو مسبَّلةً، أو محرَّمةً، أو مؤبَّدةً؛ لأنَّ اللفظَ يَترجَّحُ بذلك لإرادةِ الوقفِ، (أَوْ) اقترانُها، بـ (حُكْمِ الوَقْفِ)؛ كقولِهِ: تصدَّقتُ بكذا صدقةً لا تُباعُ ولا تُورَثُ.
(وَيُشْتَرَطُ فِيهِ) أربعةُ شروطٍ:
الأولُ: (المَنْفَعَةُ)، أي: أن تكونَ العينُ يُنتفَعُ بها (دَائِماً مِنْ مُعَيَّنٍ)، فلا يصحُّ وقفُ شيءٍ في الذِّمةِ؛ كعبدٍ ودارٍ، ولو وَصَفه كالهبةِ، (يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ؛ كَعَقَارٍ، وَحَيَوَانٍ، وَنَحْوِهِمَا)؛ مِن أثاثٍ وسلاحٍ.
ولا يصحُّ وقفُ المنفعةِ؛ كخدمةِ عبدٍ مُوصَى له بها، ولا عينٍ لا يصحُّ بيعُها؛ كحرٍّ وأمِّ ولدٍ، ولا ما لا يُنتفَعُ به مع بقائِهِ؛ كطعامٍ لأكلٍ.
ويصحُّ وقفُ المصحفِ، والماءِ، والمشاعِ. (2)
(وَ) الشرطُ الثاني: (أَنْ يَكُونَ عَلَى بِرٍّ) إذا كان على جِهةٍ عامةٍ؛ لأنَّ المقصودَ منه التقرُّبُ إلى اللهِ تعالى، وإذا لم يَكُن على بِرٍّ لم
(1) في (ع) إحدى.
(2)
نهاية السقط من (ح).
يَحصُلْ المقصودُ؛ (كَالمَسَاجِدِ، وَالقَنَاطِرِ، وَالمَسَاكِينِ)، والسِّقاياتِ، وكتبِ العلمِ، (وَالأَقَارِبِ مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ)؛ لأنَّ القريبَ الذمِّي مَوضِعُ القربةِ؛ بدليلِ جَوازِ الصدقةِ عليه، وَوَقفَت صفيةُ رضي الله عنها على أخٍ لها يهوديٍّ (1).
فيصحُّ الوقفُ على كافرٍ معيَّنٍ (غَيْرَ حَرْبِيٍّ) ومرتدٍّ؛ لانتفاءِ الدوامِ؛ لأنَّهما مقتولان عن قُربٍ.
(وَ) غيرَ (كَنِيسَةٍ)، وبِيعَةٍ، وبيتِ نارٍ، وصومعةٍ؛ فلا يصحُّ الوقفُ عليها؛ لأنَّها بُنِيَت للكفرِ، والمسلمُ والذمِّيُّ في ذلك سواءٌ.
(وَ) غيرَ (نَسْخِ التَّوْرَاةِ، وَالإِنْجِيلِ، وَكُتُبِ زَنْدَقَةٍ)، وبدعٍ مُضِلَّةٍ؛
(1) لم نقف عليه بلفظ الوقف، وإنما بلفظ الوصية، فروى عبد الرزاق (9914)، وابن أبي شيبة (30763) من طريق ليث، عن نافع، عن ابن عمر:«أن صفية ابنة حيي أوصت لابن أخ لها يهودي» ، وليث بن أبي سليم ضعيف.
وجاء من وجه آخر عند عبد الرزاق (9913)، والبيهقي (12650) من طريق أيوب، عن عكرمة قال: باعت صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم داراً لها من معاوية بمائة ألف، فقالت لذي قرابة لها من اليهود، وقالت له:«أسلم، فإنك إن أسلمت ورثتني» ، فأبى فأوصت له، قال بعضهم: بثلاثين ألفاً. وجود إسناده ابن الملقن.
ورواه البيهقي (12651) من طريق ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة ، عن بكير بن عبد الله ، عن أم علقمة مولاة عائشة رضي الله عنها بنحوه. وابن لهيعة فيه ضعف إلا أن رواية ابن وهب عنه أقوى من رواية غيره، وأم علقمة قال ابن حجر:(مقبولة).
فمجموع هذه الطرق يدل على ثبوته عن صفية. ينظر: البدر المنير 7/ 286، تقريب التهذيب ص 464، 753.
فلا يصحُّ الوقفُ على ذلك؛ لأنَّه إعانةٌ على معصيةٍ، وقد غَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حين رأَى مع عمرَ شيئاً اسْتَكْتَبَه مِن التوراةِ وقال:«أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟ أَلَمْ آتِ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّة، وَلَوْ كَانَ أَخِي مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» (1).
ولا يصحُّ أيضاً على قُطَّاعِ الطَّريقِ، أو المغاني، أو فقراءِ أهلِ الذمَّةِ، أو التَّنويرِ على قبرٍ، أو تبخيرِهِ، أو على مَن يُقِيمُ عندَه أو يخدِمُهُ، ولا وقفُ ستورٍ لغيرِ الكعبةِ.
(وَكَذَا الوَصِيَّةُ)، فلا تصحُّ على مَن لا يصحُّ الوقفُ عليه.
(وَ) كذا (الوَقْفُ عَلَى نَفْسِهِ)، قال الإمامُ:(لا أعرف الوقفَ إلا ما أخرجَهُ للهِ تعالى أو في سبيلِهِ، فإن وَقَفه عليه حتى يَموتَ فلا أعرِفُهُ)(2)؛ لأنَّ الوقفَ إما تمليكٌ للرقبةِ أو المنفعةِ، ولا يجوزُ له أن يُملِّكَ نفسَهُ مِن نفسِه، ويُصرَفُ في الحالِ لمن بعدَه؛ كمُنقطِعِ الابتداءِ.
(1) رواه أحمد (15156) من طريق مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما به. قال الهثيمي:(ورجاله موثوقون، إلا أن في مجالد ضعفاً)، وبنحوه قال ابن حجر.
وحسَّنه الألباني لشواهده الكثيرة، وقال:(وجملة القول: أن مجيء الحديث فى هذه الطرق المتباينة، والألفاظ المتقاربة مما يدل على أن مجالدَ بن سعيد قد حفظ الحديث، فهو على أقل تقدير حديث حسن)، وقد استدل به ابن تيمية وابن القيم في مواطن. ينظر: مجمع الزوائد 1/ 174، فتح الباري 13/ 334، الإرواء 6/ 34.
(2)
في رواية حنبل وأبي طالب كما في المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين لأبي يعلى (1/ 435).
وإن وَقَف على غيرِهِ واستثنى كلَّ الغلَّةِ أو بعضَها، أو الأكلَ منه مُدَّةَ حياتِهِ، أو مدَّةً مَعلومةً؛ صحَّ الوقفُ والشَّرطُ؛ لشرطِ عمرَ رضي الله عنه أَكْلَ الوالي منها، وكان هو الوالي عليها (1)، وفَعَله جماعةٌ مِن الصحابةِ (2).
(1) رواه البخاري (2764)، ومسلم (1632) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر تصدق بمالٍ له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقال له: ثمغ، وكان نخلاً، فقال عمر: يا رسول الله، إني استفدت مالاً وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره» ، فتصدق به عمر، فصدقته تلك في سبيل الله، وفي الرقاب، والمساكين، والضيف، وابن السبيل، ولذي القربى، ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف، أو يوكل صديقه غير متمول به.
(2)
من ذلك: ما علَّقه البخاري في باب: إذا وقف أرضاً أو بئراً، واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين، (4/ 13)، قال:(وأوقف أنس داراً، فكان إذا قدمها نزلها، وتصدق الزبير بدوره، وقال: للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضر بها، فإن استغنت بزوج فليس لها حق، وجعل ابن عمر نصيبه من دار عمر سكنى لذوي الحاجة من آل عبد الله).
أما أثر أنس: فوصله البيهقي (11901) من طريق محمد بن المثنى، ثنا الأنصاري، حدثني أبي، عن ثمامة، عن أنس:«أنه وقف داراً بالمدينة، فكان إذا حج مر بالمدينة فنزل داره» .
وأما أثر الزبير: فوصله الدارمي (3343) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه:«أن الزبير جعل دوره صدقة على بنيه، لا تباع ولا تورث، وأن للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضار بها، فإن هي استغنت بزوج، فلا حق لها» ، قال الألباني:(إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين). ينظر: الإرواء 6/ 40.
وأما أثر ابن عمر: فوصله ابن سعد في الطبقات (4/ 162)، من طريق عبد الله بن عمر، عن نافع قال: تصدق ابن عمر بداره محبوسة لا تباع ولا توهب، ومن سكنها من ولده لا يخرج منها، ثم سكنها ابن عمر. وعبد الله بن عمر العمري ضعيف. ينظر: تقريب التهذيب ص 314.
الشرطُ الثالثُ: أشار إليه بقولِهِ: (وَيُشْتَرَطُ فِي غَيْرِ) الوقفِ على (المَسْجِدِ وَنَحْوِهِ)؛ كالرِّباطِ والقنطرةِ (أَنْ يَكُونَ عَلَى مُعَيَّنٍ يَمْلِكُ) ملكاً ثابِتاً؛ لأنَّ الوقفَ تمليكٌ، فلا يصحُّ على مجهولٍ؛ كرَجُلٍ ومسجدٍ، ولا على أحدِ هذين، ولا على عبدٍ ومكاتبٍ، و (لَا) على (مَلَكٍ)، وجِنِّيٍّ، وميتٍ، (وَحَيَوَانٍ، وَحَمْلٍ) أصالةً، ولا على مَن سيولَدُ.
ويصحُّ على ولدِهِ، ومَن يُولَدُ له، ويَدخُلُ الحَمْلُ والمعدومُ تَبعاً.
الشرطُ الرابعُ: أن يَقِفَ ناجِزاً؛ فلا يصحُّ مُؤقَّتاً، ولا مُعلَّقاً إلا بموتٍ.
وإذا شَرَط أن يَبيعَهُ متى شاء، أو يَهبَهُ، أو يَرجِعَ فيه؛ بَطَل الوقفُ والشرطُ، قاله في الشَّرحِ (1).
(لَا قَبُولُهُ)، أي: قبولُ الوقفِ؛ فلا يُشترَطُ ولو كان على مُعيَّنٍ.
(وَلَا إِخْرَاجُهُ عَنْ يَدِهِ)؛ لأنَّه إزالةُ ملكٍ يَمنَعُ البيعَ، فلم يُعتبَرْ فيه ذلك؛ كالعِتقِ.
(1)(6/ 196).