الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالحكم فى هذه الكتب كلها وأمثالها، إذهاب أعيانها متى وجدت، بالتحريق بالنار والغسل بالماء، حتى ينمحى أثر الكتابة، لما فى ذلك من المصلحة العامة فى الدين، بمحو العقائد المضلة، ثم قال: فيتعين على ولى الأمر، إحراق هذه الكتب دفعا للمفسدة العامة، ويتعين على من كانت عنده التمكين منها للإحراق، وإلا فينزعها منه ولى الأمر، ويؤدبه على معارضته فى منعها؛ لأن ولى الأمر لا يعارض فى المصالح العامة. انتهى باختصار.
وقوله: وليس ثناء أحد على هؤلاء حجة، إنما ذكره؛ لأن فى السؤال الذى أجاب عنه: وهل ثناء الشيخ أبى الحسن الشاذلى إن صح، حجة تنهض على فضل مصنف هذا الكتاب؟ ، يعنى الفصوص لابن عربى، فيلتمس له أحسن المخارج أولا.
ذكر شيء مما رأيته للناس فى أمر ابن عربى، غير ما سبق
فى هذا السؤال
أنبئت عن الأديب المؤرخ، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدى قال: سمعت أبا الفتح بن سيد الناس يقول: سمعت ابن دقيق العيد يقول: سألت ابن عبد السلام عن ابن عربى. فقال: شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا. انتهى.
ووجدت بخط الحافظ أبى الفتح بن سيد الناس، وأنبأنى عنه غير واحد، سمعت الشيخ الإمام الحافظ الزاهد العلامة أبا الفتح محمد بن على بن وهب القشيرى يقول: سمعت شيخنا الإمام أبا محمد بن عبد السلام وجرى ذكر أبى عبد الله محمد بن العربى، فقال: شيخ سوء مقبوح كذاب. فقلت له: وكذاب أيضا. قال: نعم. تذاكرنا يوما بمسجد الجامع بدمشق، التزويج بجوارى الجن. فقال: هذا فرض محال، لأن الإنس جسم كثيف، والجن روح لطيف، ولن يعلو الجسم الكثيف الروح اللطيف.
ثم بعد قليل رأيت به شجة، فسألته عن سببها. قال: تزوجت امرأة من الجن ورزقت منها ثلاثة أولاد. فاتفق يوما أن تفاوضنا فأغضبتها؛ فضربتنى بعظم، حصلت منه هذه الشجة وانصرفت، فلم أرها بعدها، أو معناه. انتهى.
وما ذكره الإمام ابن عبد السلام من أوصاف ابن عربى المذمومة، لا تلائم صفات أولياء الله تعالى.
ووجه تكذيبه فى الحكاية التى ذكرناها عنه: أنه لا يستقيم أن يتزوج امرأة جنية ولا إنسية، ويرزق منها ثلاثة أولاد فى مدة قليلة.
ولا يعارض ما صح عن ابن عبد السلام، فى ذم ابن عربى، ما حكاه عنه الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعى فى كتابه «الإرشاد والتطريز» لأنه قال: وسمعت أن الشيخ الفقيه الإمام عز الدين بن عبد السلام، كان يطعن فى ابن العربى ويقول: هو زنديق.
فقال له يوما بعض أصحابه: أريد أن ترينى القطب. فأشار إلى ابن عربى، وقال: هذاك هو. فقيل: فأنت تطعن فيه؟ فقال: حتى أصون ظاهر الشرع، أو كما قال، رضى الله عنهما.
أخبرنى بذلك غير واحد ما بين مشهور بالصلاح والفضل، ومعروف بالدين، ثقة عدل، من أهل الشام ومن أهل مصر، إلا أن بعضهم روى: أريد أن ترينى وليا، وبعضهم روى القطب. انتهى.
وإنما لم يكن ما حكاه اليافعى معارضا لما سبق من ذم ابن عربى؛ لأن ما حكاه اليافعى، بغير إسناد إلى ابن عبد السلام، وحكم ذلك الإطراح، والعمل بما صح إسناده فى ذمه. والله أعلم.
وأظن ظنا قويا، أن هذه الحكاية من انتحال غلاة الصوفية، المعتقدين لابن عربى، فانتشرت حتى نقلت إلى أهل الخير، فتلقوها بسلامة صدر.
وكان اليافعى رحمه الله سليم الصدر فيما بلغنا، وإنما قوى ظنى بعدم صحة هذه الحكاية، لأنها توهم اتحاد زمان مدح ابن عبد السلام لابن عربى، وذم ابن عبد السلام له.
فإن تعليل ابن عبد السلام ذمه لابن عربى لصيانته للشرع، يقتضى أن ابن عربى، عالى الرتبة فى نفس الأمر، حال ذم ابن عبد السلام له. وهذا لا يصدر من عالم متق. فكيف بمن كان عظيم المقدار فى العلم والتقوى، كابن عبد السلام؟ ومن ظن به ذلك، فقد أخطأ وأثم، لما فى ذلك من تناقض القول.
ولا يعارض ذلك ما يحكى من اختلاف المحدثين فى جرح الراوى وتوثيقه؛ لأن الراوى يكون ثقة فى نفسه، ولكنه مع ذلك يلابس أمرا كبدعة، وللمحدثين فى ذلك خلاف، هل هو جرح أو لا؟ فمن عدله من المحدثين، نظر إلى أن ذلك الأمر غير قادح فى الراوى، ومن جرحه رأى ذلك الأمر قادحا.
وربما كان الراوى يخطئ أحيانا أو يقل ضبطه بالنسبة إلى غيره، فيرى بعض المحدثين
ذلك فيه جرحا، ويرى بعضهم ذلك لا يجرحه، لقلة الخطأ ووجود الضبط فى الجملة، إلى غير ذلك من الوجوه التى حصل بسببها الخلاف فى الجرح، وليس منها وجه فيه ما يدل على اتحاد زمن ذلك، من قائل واحد فى راو، إنما ذلك لاختلاف الرأى فى حال الراوى. والله أعلم.
ويمكن تأويل ما فى هذه الحكاية من ثناء ابن عبد السلام على ابن عربى ـ إن صح ثناؤه عليه ـ بأن يكون بين طعن ابن عبد السلام وثنائه عليه، زمن يصلح فيه حال ابن عربى، وليس فى مثل ذلك تعارض.
وما ذكر فى الحكاية من ثناء ابن عبد السلام على ابن عربى، على تقدير صحته. منسوخ بما ذكره ابن دقيق العيد عن ابن عبد السلام فى ذمه لابن عربى.
فإن ابن دقيق العيد لم يسمع ذلك من ابن عبد السلام إلا بمصر، بعد موت ابن عربى بسنين، لأن ابن دقيق العيد، ولد فى شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة، ونشأ ببلدة قوص، واشتغل بها فى مذهب الشافعى وغيره من العلوم، على ابن عبد السلام، فبلوغه واشتغاله بالعلم فى بلده، ثم قدومه إلى القاهرة، لا يكون إلا بعد سنة أربعين وستمائة، وابن عربى مات فى ربيع الآخر، سنة ثمان وثلاثين وستمائة بدمشق، وثناء ابن عبد السلام على ابن عربى المذكور، كان فى حياة ابن عربى، بدليل ما فيها، من أنه أراه لمن يسأله عن القطب أو الولى.
وفى السنة التى مات فيها ابن عربى، أو فى التى بعدها، كان خروج ابن عبد السلام من دمشق، لتعب ناله من صاحبها، الصالح إسماعيل بن العادل أبى بكر بن أيوب؛ لأنه سلم قلعة الشقيف (4) للفرنج، فأنكر ذلك عليه ابن عبد السلام، فعزل ابن عبد السلام عن خطابة دمشق وسجنه، ثم أطلقه، وتوجه من دمشق إلى الكرك (5)، فتلقاه صاحب الكرك، الناصر داود بن المعظم عيسى، وسأله أن يقيم عنده فلم يفعل، واعتذر بأنها لا تسع نشر علمه، فقصد مصر، فتلقاه صاحبها الصالح نجم الدين أيوب
(4) قلعة الشقيف: قلعة حصينة فى كهف من الجبل قرب بانياس من أرض دمشق. انظر: معجم البلدان (الشقيف).
(5)
الكرك: هو من أعظم حصون النصارى معترض فى طريق الحجاز وهو من القدس على مسافة يوم أو أقل، وأهله يقطعون على المسلمين الطريق فى البر وهو حصن ومعقل مشهور بناحية الشام. انظر: الروض المعطار فى خبر الأقطار 202، 203، 492، 493، معجم البلدان (الكرك).
ابن الكامل، وأكرمه وولاه الخطابة بالجامع العتيق بمصر، والقضاء بها مع الوجه القبلى، وتصدى لنشر العلم والإفادة على أحسن سبيل. وهذا كله لا يخفى على أحد من أهل التحصيل.
وقال ابن مسدى فى ترجمة ابن عربى فى معجمه، بعد أن ذكر ما نقلناه عنه من شيوخ ابن عربى: يلقب بالقشيرى، لقبا غلب عليه لما كان يشير من التصوف إليه، ولقد خاض فى بحر تلك الإشارات، وتحقق بمحيى تلك العبارات، وتكون فى تلك الأطوار، حتى قضى ما شاء من لبانات وأوطار، ثم قال: وله تواليف كثيرة، تشهد له بالتقدم والإقدام، ومواقف النهايات ومزالق الأقدام.
وكان مقتدرا على الكلام، ولعله ما سلم من الكلام، وعندى من أخباره عجائب، ومن صحيح منقولاته غرائب. وكان ظاهرى المذهب فى العبادات، باطنى النظر فى الاعتقادات، ولهذا ما ارتبت فى أمره، والله أعلم بسره.
قال: ومن شعره المحكم الفصول، السالم من الفضول قوله (1):
يا غاية السول والمأمول يا سندى
…
شوقى إليك شديد لا إلى أحد
ذبت اشتياقا ووجدا من محبتكم
…
فآه من فرط شوقى آه من كمدى
يدى وضعت على قلبى مخافة أن
…
ينشق صدرى لما خاننى جلدى
ما زال يرفعها طورا ويخفضها
…
حتى وضعت يدى الأخرى لشديدى
انتهى.
وأنشدنى هذه الأبيات وغيرها من شعر ابن عربى أبو هريرة بن الذهبى، إذنا عن القاسم بن مظفر بن عساكر، عن ابن عربى إجازة.
وذكره القطب القسطلانى ـ على ما ذكر الأستاذ أبو حيان النحوى ـ فى كتاب ألفه القطب، فى ذكر الطائفة القائلة بالوحدة المطلقة فى الموجودات، ابتدأ فيه بالحلاج، وختم فيه بابن سبعين. فقال: انتقل ـ يعنى ابن عربى ـ من بلاد الأندلس إلى هذه البلاد بعد التسعين وخمسمائة. وجاور بمكة، وسمع بها الحديث، وصنف «الفتوحات المكية» بها.
وكان له لسان فى التصوف، ومعرفة لما انتحاه من هذه المقالات، وصنف بها كتبا كثيرة على مقاصده التى اعتقدها، ونهج فى كثير منها مناهج تلك الطائفة، ونظم فيها أشعارا كثيرة، وأقام بدمشق مدة، ثم انتقل إلى الروم، وحصل له فيها قبول وأموال جزيلة، ثم عاد إلى دمشق، وبها توفى. انتهى.
ومن خط أبى حيان نقلت ذلك، وذكره الذهبى فى العبر، فقال: صاحب التصانيف، وقدوة القائلين بوحدة الوجود، ثم قال: وقد اتهم بأمر عظيم.
وقد وصف شيخ الإسلام تقى الدين على بن عبد الكافى السبكى، ابن عربى هذا وأتباعه، بأنهم ضلال جهال، خارجون عن طريقة الإسلام؛ لأنه قال فيما أنبأنى به عنه الحافظان: زين الدين العراقى، ونور الدين الهيثمى، فى شرحه على «المنهاج» للنووى، فى باب الوصية، بعد ذكره للمتكلم: وهكذا الصوفية منقسمون كانقسام المتكلمين؛ فإنهما من واد واحد، فمن كان مقصوده معرفة الرب سبحانه وتعالى وصفاته وأسمائه، والتخلق بما يجوز التخلق به منها، والتجلى بأحوالها، وإشراق المعارف الإلهية عليه، والأحوال السنية عنده، فذلك من أعظم العلماء، ويصرف إليه من الوصية للعلماء والوقف عليهم، ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين، كابن العربى وأتباعه، فهم ضلال جهال، خارجون عن طريقة الإسلام، فضلا عن العلماء. انتهى.
وذكره الذهبى فى الميزان، فقال: صنف التصانيف فى تصوف الفلاسفة وأهل الوحدة، وقال أشياء منكرة، عدها طائفة من العلماء مروقا وزندقة، وعدها طائفة من العلماء، من إشارات العارفين ورموز السالكين، وعدها طائفة، من متشابه القول، وأن ظاهرها كفر وضلال، وباطنها حق وعرفان، وأنه صحيح فى نفسه كبير القدر. وآخرون يقولون: قد قال هذا الكفر والضلال، فمن ذا الذى قال: إنه مات عليه. فالظاهر عندهم من حاله، أنه رجع وأناب إلى الله، فإنه كان عالما بالآثار والسنن، قوى المشاركة فى العلوم.
قال: وقولى أنا فيه: أنه يجوز أن يكون من أولياء الله تعالى، الذين اجتذبهم الحق إلى جنابه عند الموت، وختم له بالحسنى.
وأما كلامه، فمن فهمه وعرفه على قواعد الاتحادية وعلم محط القوم، وجمع بين أطراف عبارتهم، تبين له الحق فى خلاف قولهم، وكذلك من أمعن النظر فى «فصوص الحكم» أو أنعم التأمل، لاح له العجب، فإن الذكى إذا تأمل من ذلك، الأقوال والنظائر والأشباه، فهو أحد رجلين، إما من الاتحادية فى الباطن، وإما من المؤمنين بالله، الذين يعدون أن أهل هذه النحلة من أكفر الكفرة. انتهى.
وقال فى تاريخ الإسلام، على ما أخبرنى به ابن المحب الحافظ، إذنا عنه سماعا: هذا الرجل كان قد تصوف وانعزل وجاع وسهر، وفتح عليه بأشياء امتزجت بعالم الخيال
والخطرات والفكرة، واستحكم ذلك، حتى شاهد بقوة الخيال أشياء، ظنها موجودة فى الخارج، وسمع من طيش دماغه خطابا، اعتقده من الله، ولا وجود لذلك أبدا فى الخارج، حتى إنه قال: لم يكن الحق أوقفنى على ما سطره لى فى توقيع ولايتى أمور العالم، حتى أعلمنى بأنى خاتم الولاية المحمدية بمدينة فاس، سنة خمس وتسعين.
فلما كانت ليلة الخميس فى سنة ثلاثين وستمائة، أوقفنى الحق على التوقيع بورقة بيضاء فرسمته بنصه: هذا توقيع إلهى كريم، من الرءوف الرحيم إلى فلان. وقد أجزل له رفده، وما خيبنا قصده، فلينهض إلى ما فوض إليه، ولا تشغله الولاية عن المثول بين أيدينا شهرا بشهر، إلى انقضاء العمر. انتهى.
وهذا الكلام فيه مؤاخذات على ابن عربى.
منها: إن كان المراد بما ذكره من أنه خاتم الولاية المحمدية، أنه خاتم الأولياء، كما أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، فليس بصحيح، لوجود جمع كثير من أولياء الله تعالى العلماء العاملين فى عصر ابن عربى، وفيما بعده على سبيل القطع، وإن كان المراد أنه خاتم الأنبياء بمدينة فاس، فهو غير صحيح أيضا، لوجود الأولياء الأخيار بها بعد ابن عربى. وهذا من الأمر المشهور.
أنشدنى شيخنا المحدث، شمس الدين محمد بن المحدث ظهير الدين إبراهيم الجزرى، سماعا من لفظه فى الرحلة الأولى بظاهر دمشق، أن الحافظ الزاهد شمس الدين محمد بن المحب عبد الله بن أحمد المقدسى الصالحى، أنشده لنفسه سماعا، وأنشدنى ذلك إجازة، شيخنا ابن المحب المذكور:
دعى ابن العريبى الأنام ليقتدوا
…
بأعورة الدجال فى بعض كتبه
وفرعون أسماه لكل محقق
…
إماما ألا تباله ولحزبه
وسئل عنه شيخنا العلامة المحقق الحافظ المفتى المصنف، أبو زرعة أحمد بن شيخنا الحافظ العراقى الشافعى، أبقاه الله تعالى، فقال: لا شك فى اشتمال «الفصوص» المشهورة على الكفر الصريح الذى لا يشك فيه. وكذلك «فتوحاته المكية» فإن صح صدور ذلك عنه، واستمر عليه إلى وفاته، فهو كافر مخلد فى النار بلا شك.
وقد صح عندى عن الحافظ جمال الدين المزى، أنه نقل من خطه فى تفسير قوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ)[البقرة: 6] كلاما ينبو عنه السمع، ويقتضى الكفر، وبعض كلماته لا يمكن تأويلها، والذى يمكن تأويله منها، كيف يصار إليه مع مرجوحية التأويل، والحكم إنما يترتب على الظاهر.
وقد بلغنى عن الشيخ علاء الدين القونوى ـ وأدركت أصحابه ـ أنه قال فى مثل ذلك: إنما يؤول كلام المعصومين، وهو كما قال، وينبغى أن لا يحكم على ابن عربى نفسه بشئ، فإنى لست على يقين من صدور هذا الكلام منه، ولا من استمراره عليه إلى وفاته. ولكنا نحكم على هذا الكلام بأنه كفر. انتهى.
وما ذكره شيخنا من أنه لا يحكم على ابن العربى نفسه بشئ، خالفه فيه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقينى لتصريحه بكفر ابن عربى كما سبق عنه. وقد صرح بكفر ابن العربى، واشتمال كتبه على الكفر الصريح، الإمام رضى الدين أبو بكر بن محمد بن صالح، المعروف بابن الخياط، والقاضى شهاب الدين أحمد بن على الناشرى الشافعيان، وهما ممن يقتدى به من علماء اليمن فى عصرنا، ويؤيد ذلك فتوى من ذكرنا من العلماء وإن كانوا لم يصرحوا باسمه، إلا ابن تيمية، فإنه صرح باسمه؛ لأنهم كفروا قائل المقالات المذكورة فى السؤال، وابن عربى هو قائلها لأنها موجودة فى كتبه التى صنفها، واشتهرت عنه شهرة يقتضى القطع بنسبتها إليه. والله أعلم.
والقونوى المشار إليه فى كلام شيخنا أبى زرعة، هو شارح الحاوى الصغير فى الفقه.
ووجدت ذلك فى ذيل تاريخ الإسلام للذهبى، فإنه قال فى ترجمة القونوى: وحدثنى ابن كثير يعنى: الشيخ عماد الدين صاحب التاريخ والتفسير، أنه حضر مع المزى عنده ـ يعنى القونوى ـ فجرى ذكر «الفصوص» لابن عربى، فقال: لا ريب أن هذا الكلام الذى فيه كفر وضلال. فقال صاحبه الجمال المالكى: أفلا تتأول يا مولانا؟ . فقال: لا، إنما يتأول قول العصوم. انتهى.
والمزى: هو الحافظ جمال الدين صاحب تهذيب الكمال، والأطراف. وفى سكوته إشعار برضاه بكلام القونوى. والله أعلم.
وأما الكلام الذى لابن عربى على تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) *) الآية التى أشار إليها شيخنا الحافظ أبو زرعة فى كلامه، فهو ما حدثنى به شيخنا أبو زرعة بعدما كتبه لى بخطه من حفظه بالمعنى على ما ذكر، وربما فاته بعض المعنى، فذكره باللفظ. قال: سمعت والدى رحمه الله غير مرة يقول: سمعت قاضى القضاة برهان الدين بن جماعة يقول: نقلت من خط الحافظ جمال الدين المزى، قال: نقلت من خط ابن عربى فى الكلام على قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية، ستروا محبتهم، سواء عليهم
أنذرتهم أم لم تنذرهم: استوى عندهم إنذارك وعدم إنذارك، لما جعلنا عندهم، لا يؤمنون بك، ولا يأخذون عنك، إنما يأخذون عنا. ختم الله على قلوبهم فلا يعقلون إلا عنه. وعلى سمعهم، فلا يسمعون إلا منه. وعلى أبصارهم غشاوة، فلا يبصرون إلا منه. ولا يلتفتون إليك ولا إلى ما عندك، بما جعلناه عندهم وألقينا إليهم.
وقد بين شيخنا فاضل اليمن شرف الدين إسماعيل بن أبى بكر، المعروف بابن المقرى الشافعى، من حال ابن عربى ما لم يبينه غيره؛ لأن جماعة من صوفية زبيد: أوهموا من ليس له كثير نباهة، علو مرتبة ابن عربى، ونفى العيب عن كلامه. وذكر ذلك شيخنا ابن المقرى مع شيء من حال الصوفية المشار إليهم، فى قصيدة طويلة من نظمه. فقال فيما أنشدنيه إجازة:
ألا يا رسول الله غارة ثائر
…
غيور على حرماته والشعائر
يحاط بها الإسلام ممن يكيده
…
ويرميه من تلبيسه بالفواقر
فقد حدثت بالمسلمين حوادث
…
كبار المعاصى عندها كالصغائر
حوتهن كتب حارب الله ربها
…
وغربها من غربين الحواضر
بحاسر فيها ابن العريبى واجترى
…
على الله فيما قال كل التجاسر
فقال بأن الرب والعبد واحد
…
فربى مربوبى بغير تغاير
وأنكر تكليفا إذ العبد عنده
…
إله وعبد فهو إنكار حائر
وخطأ إلا من يرى الخلق صورة
…
وهوية لله عند التناظر
وقال تجلى الحق فى كل صورة
…
تجلى عليها فهى إحدى المظاهر
وأنكر أن الله يغنى عن الورى
…
ويغنون عنه لاستواء المقادر
كما ظل فى التهليل يهزا بنفيه
…
وإثباته مستجملا للمغاير
وقال الذى ينفيه عين الذى
…
أتى به مثبتا لا غير عند التجاور
فأفسد معنى ما به الناس أسلموا
…
وألغاه إلغا بينات التهاتر
فسبحان رب العرش عما يقوله
…
أعاديه من أمثال هذى الكبائر
فقال عذاب الله عذب وربنا
…
ينعم فى نيرانه كل فاجر
وقال بأن الله لم يعص فى الورى
…
فما ثم محتاج لعاف وغافر
وقال مراد الله وفق لأمره
…
فما كافر إلا مطيع الأوامر
وكل امرئ عند المهيمن مرتضى
…
سعيد فما عاص لديه بخاسر
وقال يموت الكافرون جميعهم
…
وقد آمنوا غير المفاجا المبادر
وما خص بالإيمان فرعون وحده
…
لدى موته بل عم كل الكوافر
فكذبه يا هذا تكن خير مؤمن
…
وإلا فصدقه تكن شر كافر
وأثنى على من لم يجب نوح إذ دعا
…
إلى ترك ود أو سواع وناسر
وسمى جهولا من يطاوع أمره
…
على تركها قول الكفور المجاهر
ولم ير بالطوفان إغراق قومه
…
ورد على من قال رد المناكر
وقال بلى قد أغرقوا فى معارف
…
من العلم والبارى لهم خير ناصر
كما قال فازت عاد بالقرب واللقا
…
من الله فى الدنيا وفى اليوم الآخر
وقد أخبر البارى بلعنته لهم
…
وإبعادهم فاعجب له من مكابر
وصدق فرعونا وصحح قوله
…
أنا الرب الأعلى وارتضى كل سامر
وأثنى على فرعون بالعلم والذكا
…
وقال بموسى عجلة المتبادر
وقال خليل الله فى الذبح واهم
…
ورؤيا أبنه تحتاج تعبير عابر
يعظم أهل الكفر والأنبياء لا
…
يعاملهم إلا بحط المقادر
ويثنى على الأصنام خيرا ولا يرى
…
لها عابدا ممن عصى أمر آمر
وكم من جراءات على الله قالها
…
وتحريف آيات لسوء تفاسر
ولم يبق كفر لم يلابسه عامدا
…
ولم يتورط فيه غير محاذر
وقال سيأتينا من الصين خاتم
…
من الأولياء للأولياء الأكابر
له رتبة فوق النبى ورتبة
…
له دونه فاعجب لهذا التنافر
فرتبته العليا تقول لأخذه
…
عن الله لا وحيا بتوسيط آخر
ورتبته الدنيا تقول لأنه
…
من التابعية فى الأمور الظواهر
وقال اتباع المصطفى ليس واضعا
…
لمقداره الأعلى وليس بحاقر
فإن تدن منه لاتباع فإنه
…
يرى منه أعلى من وجوه أواخر
ترى حال نقصان له فى اتباعه
…
لأحمد حتى جا بهذى المعاذر
فلا قدس الرحمن شخصا يحبه
…
على ما يرى من قبح هذى المخابر
وقال بأن الأنبياء جميعهم
…
بمشكاة هذا تستضى فى الدياجر
وقال فقال الله لى بعد مدة
…
بأنك أنت الختم رب المفاخر
أتانى ابتدا بيضاء سطر ربنا
…
بإنفاذه فى العالمين أو امرى
وقال فلا تشغلك عنى ولاية
…
وكن كل شهر طول عمرك زائرى
فرفدك أجزلنا وقصدك لم يخب
…
لدينا فهل أبصرت يا ابن الأخاير
بأكذب من هذا وأكفر فى الورى
…
وأجرا على غشيان هذى الفواطر
فلا يدّعوا من صدقوه ولاية
…
وقد ختمت فليؤخذوا بالأقادر
فيا لعباد الله ما ثم ذو حجا
…
له بعض تمييز بقلب وناظر
إذا كان ذو كفر مطيعا كمؤمن
…
فلا فرق فينا بين بر وفاجر
كما قال هذا إن كل أوامر
…
من الله جاءت فهى وفق المقادر
فلم بعثت رسل وسنت شرائع
…
وأنزل قرآن بهذى الزواجر
أيخلع منكم ربقة الدين عاقل
…
بقول غريق فى الضلالة حائر
ويترك ما جاءت به الرسل من هدى
…
لأقوال هذا الفيلسوف المغادر
فيا محسنى ظنا بما فى فصوصه
…
وما فى فتوحات الشرور الدوائر
عليكم بدين الله لا تصبحوا غدا
…
مساعر نار قبحت من مساعر
فليس عذاب الله عذبا كمثل ما
…
يمنيكم بعض الشيوخ المدابر
ولكن أليم مثل ما قال ربنا
…
به الجلد إن ينضج يبدل بآخر
غدا يعلمون الصادق القول منهما
…
إذا لم يتوبوا اليوم علم مباشر
ويبدو لكم غير الذى يعدونكم
…
بأن عذاب الله ليس بضائر
ويحكم رب العرش بين محمد
…
ومن سن علم الباطل المتهاتر
ومن جا بدين مفترى غير دينه
…
فأهلك أغمارا به كالأباقر
فلا تخدعن المسلمين عن الهدى
…
وما للنبى المصطفى من مآثر
ولا تؤثروا غير النبى على النبى
…
فليس كنور الصبح ظلما الدياجر
دعوا كل ذى قول لقول محمد
…
فما آمن فى دينه كمخاطر
وأما رجالات الفصوص فإنهم
…
يعومون فى بحر من الكفر زاخر
إذا راح بالريح المتابع أحمدا
…
على هديه راحوا بصفقة خاسر
سيحكى لهم فرعون فى دار خلده
…
بإسلامه المقبول عند التجاور
ويا أيها الصوفى خف من فصوصه
…
خواتم سوء غيرها فى الخناصر
وخذ نهج سهل والجنيد وصالح
…
وقوم مضوا مثل النجوم الزواهر
على الشرع كانوا ليس فيهم لوحدة
…
ولا لحلول الحق ذكر لذاكر
رجال رأوا ما الدار دار إقامة
…
لقوم ولكن بلغة للمسافر
فأحيوا لياليهم صلاة وبيتوا
…
بما خوف رب العرش صوم البواكر
مخافة يوم مستطير بشره
…
عبوس المحيا قمطرير المظاهر
فقد نحلت أجسادهم وأذابها
…
قيام لياليهم وصوم الهواجر
أولئك أهل الله فالزم طريقهم
…
وعد عن دواعى الابتداع الكوافر
انتهى باختصار.
وكثير من هذه المنكرات فى كلام ابن عربى، لا سبيل إلى صحة تأويل فيها، فإذا لا يستقيم اعتقاد أنه من أولياء الله، مع اعتقاد صدور هذه الكلمات منه، إلا باعتقاد ابن عربى، خلاف ما صدر منه، ورجوعه إلى ما يعتقده أهل الإسلام فى ذلك، ولم يجئ بذلك عنه خبر؛ لأنه لا يرى ما صدر منه موجبا لذلك، ولأجل كلامه المنكر، ذمه جماعة من أعيان العلماء وقتا بعد وقت.
وأما من أثنى عليه، فلفضله وزهده وإيثاره واجتهاده فى العبادة، واشتهر ذلك عنه، حتى عرفه جماعة من الصالحين عصرا بعد عصر، فأثنوا عليه بهذا الاعتبار، ولم يعرفوا ما فى كلامه من المنكرات، لاشتغالهم عنها بالعبادات، والنظر فى غير ذلك من كتب القوم، لكونها أقرب لفهمهم، مع ما وفقهم الله تعالى من حسن الظن بآحاد المسلمين، فكيف بابن عربى؟ . وبعض المثنين عليه، يعرفون ما فى كلامه، ولكنهم يزعمون أن لها تأويلا وحملهم على ذلك كونهم تابعين لابن عربى فى طريقته، فثناؤهم على ابن عربى مطرح لتزكيتهم معتقدهم.
وقد بان بما ذكرناه، سبب ذم الناس لابن عربى ومدحه، والذم فيه مقدم. وهو ممن كبه لسانه، نسأل الله المغفرة.
وأما ما يحكى فى المنام، من نهى ابن عربى لشخص من إعدام كتبه، ممن يصنع ذلك فى الحياة، وكذا ما يرى فى النوم من خصوص عذاب لشخص، بسبب ذمه لابن عربى أو لكتبه، فهو من تخويف الشيطان.
وقد بلغنى نحو ذلك، عن الإمام البارع زين الدين عمر بن مسلم القرشى الشافعى، خطيب دمشق، وصح لى ذلك عنه.
وسمعت صاحبنا الحافظ الحجة، القاضى شهاب الدين أحمد بن على بن حجر، الشافعى يقول: جرى بينى وبين بعض المحبين لابن عربى، منازعة كثيرة فى أمر ابن عربى، حتى نلت منه لسوء مقالته، فلم يسهل ذلك بالرجل المنازع لى فى أمره، وهددنى بالشكوى إلى السلطان بمصر، بأمر غير الذى تنازعنا فيه، ليتعب خاطرى. فقلت له: ما للسلطان فى هذا مدخل، ألا تعال نتباهل، فقل أن تباهل اثنان، فكان أحدهما كاذبا، إلا وأصيب.
قال: فقال لى: بسم الله. قال: فقلت له: قل اللهم إن كان ابن عربى على ضلال، فالعنى بلعتك، فقال ذلك. وقلت أنا: اللهم إن كان ابن عربى على هدى، فالعنى