الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
406 ـ محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن على، الحسنى الإدريسى، أبو عبد الله الفاسى:
نزيل مكة. سمع بمصر من القطب القسطلانى: جامع الترمذى، وعوارف المعارف للسهروردى، وكتاب الفصول، فى أخبار الشيخ أبى عبد الله القرشى وغيره من المشايخ، جمع الشيخ أبى العباس القسطلانى، وارتقاء الرتبة فى اللباس والصحبة، من تأليفه هو، وفضائل جامع الترمذى، تخريج الحافظ أبى القاسم الإسعردى، من مروياته، بحضور مخرجه، وغير ذلك، وعلى العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحرانى: صحيح البخارى، وعلى غازى بن أبى الفضل الحلاوى الغيلانيات، وعلى الفضل بن نصر بن رواحة الأنصارى مشيخته، تخريج أبى القاسم الإسعردى، وأربعين فى فضل الأنصار ببلبيس (1)، وعلى أبى غالب هبة الله بن غالب السامرى البغدادى جزء البانياسى بالحرم الشريف فى العشرين من ذى الحجة، سنة ست وثمانين وستمائة، عن أبى الوقت محاسن بن عمر الحراسى عن أبى بكر بن الزاغونى عن البانياسى بسنده، وسمعه على غيره.
وعلى أبى نصر عبد الله بن محمد بن على الطبرى، سبط سليمان بن خليل:«اليقين» لابن أبى الدنيا، عن ابن المقير وغير ذلك، وعلى أخيه المفتى عماد الدين عبد الرحمن محمد بن الطبرى، فى محرم سنة سبع وثمانين بالحرم. ومن هذا العام، استوطن مكة، وسمع بها على جماعة من شيوخها مع أولاده.
وعلى العز الفاروثى: مسند الشافعى، فى محرم سنة تسع وثمانين وكتب عن جماعة، وصحب جماعة من العلماء والصالحين، وأخذ عنهم، وصار قدوة فى العلم والعمل.
وحدث، سمع منه حماعة من الأعيان، منهم: المحدث عز الدين يوسف بن الحسن الزرندى؛ نزيل الحرم النبوى، ومات قبله، والحافظ قطب الدين الحلبى، سمع منه بيتين بمصر، عن ناظمهما أبى الحسن على بن إبراهيم التجانى ـ بتاء مثناة من فوق مشددة وجيم ـ وهما:
406 ـ انظر ترجمته فى: (الدرر الكامنة 4/ 181).
(1)
قال ابن إياس فى ذكر مدينة بلبيس: سميت فى التوراة أرض حاشان وفيها نزل يعقوب عليه السلام، وذكر ابن خرداذبة أن بين بلبيس ومدينة فسطاط مصر أربعة وعشرون ميلا، وكانت مدينة كبيرة من أجل مدائن مصر إلى أن خربت فى سنة ست وثمانمائة. انظر: نزهة الأمم 186، معجم البلدان (بلبيس).
بينى وبين خطوب الدهر ملحمة
…
سيف القناعة فيها قائم بيدى
متى دهانى من دهمائها عدد
…
هززته فانثنت مهزومة العدد
وذكره فى تاريخه بمصر، وقال: كان خيرا صالحا، دينا. اجتمعت به بمصر وبمكة، ودعا لى، وانتفعت ببركته. انتهى.
وسمعت شيخنا العلامة تقى الدين عبد الرحمن بن أبى الخير بن أبى عبد الله الفاسى، يقول: سمعت الشيخ خليل بن عبد الرحمن المالكى، يثنى على الشريف أبى عبد الله الفاسى ثناء بليغا، ويذكر له كرامات.
منها: ما حدثنى به شيخنا الشريف تقى الدين المذكور، وكتبت عنه: أنه سمع الشيخ خليل المالكى يقول: أساء شخص على الشريف أبى عبد الله الفاسى إساءة بليغة بالمسجد الحرام، فلم يخرج المسئ من المسجد، حتى عرض له داء؛ مات به سريعا.
ومنها: ما حدثنى به شيخنا الشريف تقى الدين أيضا، قال: سمعت الشيخ خليلا يقول: كان الشريف أبو عبد الله الفاسى، أسند وصيته إلى الشيخ أبى عبد الله بن الحاج، مؤلف «المدخل» فاجتمع ابن الحاج بعد موت الشريف أبى عبد الله الفاسى، بجماعة من الأعيان، من التجار وغيرهم، وسألهم فى عمل دائرة لقضاء دين الشريف أبى عبد الله؛ لأنه كان فقيرا. فرأى ابن الحاج، الشريف أبا عبد الله الفاسى فى المنام، فقال له: بع تركتى، واقض دينى.
فأعرض ابن الحاج عن هذه الرؤيا، وعدها من حديث النفس، وقال: ما عسى أن تكون تركته فى دينه، وهو فقير وغريب، وصمم على عمل الدائرة. فرآه فى المنام ثانية، فقال له: بع تركنى. ثم رآه الثالثة، وقال له: ما لك ولدينى، بع تركتى واقض دينى. فعرف أنها رؤيا حق، فجمع ابن الحاج الناس، ليبيع تركته، فبيعت بأوفى الأثمان، حتى إن إبريقه الفخار، بيع بثلاثمائة وستين درهما، وسبحته بألف درهم، وكانت ألف حبة، تفرقها الناس، وبيع صاع، مقدر على صاع النبى صلى الله عليه وسلم بمائة وثمانين.
قال الشيخ خليل: وصار لى بهذا الثمن، فقضى الله ببركته دينه من تركته، وفضلت منها فضلة لورثته.
وكانت وفاته يوم الخميس السابع والعشرين من صفر، وقيل: ثامن عشر منه، من سنة تسع عشرة وسبعمائة بمصر، ودفن بالقرافة، عند الشيخ أبى محمد بن أبى جمرة، وكان قدومه من مكة إلى مصر ليتداوى من مرض عرض له، وهو ضيق النفس، فأدركه الأجل.
ولم أدر متى كان مولده؛ إلا أنى وجدت بخطه ما يقتضى، أنه كان بالغا فى سنة ثلاث وسبعين، ودخل الديار المصرية فى آخر رمضان سنة ثمانين، وحج سنة إحدى وثمانين، وعاد إلى مصر، ثم جاء إلى مكة سنة ست وثمانين، فاستوطنها.
وقد رأيت أن أثبت هنا ما علقه جدى عن العلماء وأهل الخير، من الفوائد العلمية والشعر، ومناقب الصالحين، وشيئا مما أبداه جدى من الفوائد المتعلقة ببعض ما ذكره عن العلماء وأهل الخير، على صورة ما وجد بخطه: سمعت الشيخ أبا محمد المرجانى، بمدينة تونس، سنة ثمانين وستمائة، رحمه الله، يقول فى قوله صلى الله عليه وسلم:«أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله» (2).
قال، رحمه الله: عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته أفضل الأزمان للدعاء، بقوله:«أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة» ثم رفع هممهم عن طلب مصالحهم، والاشتغال بذكر ربهم، فقال:«وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله» فإذا اشتغل العبد بذكر ربه عن طلب مصالحه، قيل له: من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين.
وقال: سمعت الشيخ العارف القدوة، أبا محمد عبد الله بن محمد المرجانى، رحمه الله، يقول فى قوله عليه السلام:«إن قراءة سورة الواقعة أمان من الفاقة» .
قال الشيخ رحمه الله: سر ذلك فى السورة قوله: (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ)[الواقعة: 58، 59] الآية (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)[الواقعة: 63، 64] الآية (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) الآية [الواقعة: 71، 72].
فهذه مواد الأسباب. فإذا قرأ القارئ هذه الآيات؛ وانسلخ من الالتفات إليها، واثقا بمسببها وخالقها، تيسرت له الأسباب وسيقت إليه خادمة، فلا تناله فاقة لكونه واثقا بمسبب الأسباب، لا ملتفتا إلى الأسباب. والله المستعان.
(2) أخرجه مالك فى الموطأ حديث رقم (500) من طريق: حدثنى عن مالك، عن زياد بن أبى زياد، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» .
وبرقم (961) من طريق: وحدثنى عن مالك، عن زياد بن أبى زياد مولى عبد الله بن عياش ابن أبى ربيعة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى لا اله الا الله وحده لا شريك له» .
سمعت معنى هذا الكلام، من الشيخ رضى الله عنه بمدينة تونس، سنة ثمانين وستمائة.
وقال: سمعت الإمام أبا محمد عبد الله بن محمد المرجانى يقول: وقد تكلم فى عذاب القبر. وقال رحمه الله: عذاب القبر بحسب تعلق النفس بالعادة.
قلت: فعلى هذا، من كان أعرق فى التعلق بالعادة، كان عذاب القبر عليه أشد.
وقال: وسمعته يقول فى قول الصحابى: «ومن فاتته قراءة أم القرآن، فقد فاته خير كثيرة» ، يعنى فى الصلاة.
قال رحمه الله: من فاتته لحظة مع الإمام، فقد فاته خير كثير.
وقال: سمعت الشيخ الإمام أبا محمد المرجانى، رحمه الله، يقول فى قوله تعالى:(الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)[الشعراء: 218، 219] ما من ذرة ساجدة لله فى السماء والأرض، إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد معها فى مقامها.
وقال: وسمعته يقول فى قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أخرجك يا أبا بكر؟ قال: الجوع. ما أخرجك يا عمر؟ قال: الجوع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أخرجنى الذى أخرجكما» (3).
قال الشيخ رضى الله عنه، قوله:«أخرجنى الذى أخرجكما» . الذى: لفظ مبهم ظاهره الجوع، والمراد «الله» والله أعلم، وهو الذى أخرجه حقيقة فعبر بلفظ «الذى»
(3) أخرجه مسلم فى صحيحه باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، ويتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام حديث رقم (5265) حدثنا أبو بكر ابن أبى شيبة، حدثنا خلف بن خليفة عن يزيد بن كيسان، عن أبى حازم، عن أبى هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبى بكر وعمر، فقال:«ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ » قالا: الجوع يا رسول الله. قال: «وأنا والذى نفسى بيده لأخرجنى الذى أخرجكما، قوموا» فقاموا معه، فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس فى بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين فلان؟ » قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصارى فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافا منى، قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إياك والحلوب» فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر وعمر:«والذى نفسى بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم» .
وهو يصدق على السبب وعلى المسبب، فشاركهم فى ظاهر الحال دفعا للوحشة الواقعة فى ذكر الجوع. قلت: وهذا من معالى الأخلاق وكريم الشيم، وهو من معنى قوله تعالى:(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 215].
وقال: سمعت الشيخ الصالح أبا محمد عبد الله بن عمران البكرى، بمدينة رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقول: سمعت شيخنا أبا محمد عبد الله بن محمد المرجانى رحمه الله يقول: لا يجوز استنباط معنى من لفظ إلا بخمسة شروط: أن لا يخل بالفصاحة، ولا بالمعقول، ولا بالمنقول، وأن يكون اللفظ يحتمله، وأن يوجد من روحانية ذلك اللفظ.
قال لى صاحبنا أبو محمد عبد الله بن عمران، رحمه الله: قال لنا شيخنا أبو محمد المرجانى، رحمه الله لما ذكر هذا الشرط الأخير ـ معنى قولنا: إنه يوجد من روحانية ذلك اللفظ، احترازا من أن يوجد من معنى يشبهه.
مثاله: ماء الورد وماء النسرين، فكلاهما مشتبه، ولكن لهذا خاصية، ولهذا خاصية.
وقال: سمعت شيخنا أبا محمد عبد الله بن محمد بن أبى جمرة، رحمه الله، يقول: من أهل الله من يطلق له الإذن فى التصرف، ومنهم من يكون إذنه المراجعة فى كل شئ. فقلت له: يا سيدى، أيهما أتم حالا؟ . فقال لى: وأين لذاذة المراجعة؟ .
وقال: دخلت أنا وصاحب لى ـ سنة أربع وثمانين وستمائة فى شهر رجب ـ على الإمام تقى الدين أبى عبد الله محمد بن على بن وهب القشيرى زائرين، ونحن عازمان على السفر إلى زيارة بيت المقدس. فقال لى ولصاحبى: اذكرانى فى دعائكما، دعاء قصد وعبادة، لا دعاء عادة، فقلت له أنا: يا سيدى، ما دعاء العادة؟ قال: مثاله الحارس فى السوق يقول: لا إله إلا الله، ويرفع صوته، قصده التعريف بأنه منتبه. قال: وشبهه قول الطالب للشيخ: ويغفر الله لنا ولكم. هى عادة بين الطلبة.
وقال: أنشدنى الإمام أوحد زمانه، تقى الدين محمد بن الإمام القدوة مجد الدين أبى الحسن على المذكور أعلاه ـ يعنى ابن دقيق العيد ـ لنفسه:
تمنيت أن الشيب عاجل لمتى
…
وقرب منى فى صباى مزاره
لآخذ من عهد الشباب نشاطه
…
وآخذ من عهد المشيب وقاره (4)
وأنشدنى أيضا لنفسه:
(4) فى فوات الوفيات (3/ 444).
فآخذ من عصر الشباب نشاطه
…
وآخذ من عهد المشيب وفاره
وما ضرنا بعد المسافة بيننا
…
سرائرا تسرى إليكم فنلتقى (5)
وقال: سمعت الشيخ أبا يعقوب يوسف بن إبراهيم بن عقاب الجذامى الشاطبى، نزيل تونس، بها، يقول: لما دخل الشيخ أبو مدين رضى الله عه مدينة تونس، كان يجلس فيتكلم على أصحابه، فمر عليه بعض فقهاء تونس، فجلس مع الجماعة فى المجلس، فلما فرغ الشيخ أبو مدين رضى الله عنه من كلامه، خرج ذلك الفقيه، وصار يقول: أبو مدين، أبو مدين رجل لا يحسن العربية، ويلحن فى كلامه، فصار يكثر من هذا المعنى، ثم بعد ذلك بمدة، مرّ على المجلس، فدخل فحضر مع الجماعة، فحين جلس، قال الشيخ أبو مدين رضى الله عنه: ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قطّ، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، فوقع فى نفس ذلك الفقيه، أنه مراد بذلك، فاستغفر مما كان منه.
وقال بعد أن ذكر شيئا من حال ابن عقاب: وقد حضرت مع جماعة من الطلبة، فى المدة التى كان شيخنا أبو محمد المرجانى رضى الله عنه فيها فى مصر، يتكلم فى جامعها. فذكروا حديث الشيخ أبى محمد، فقال بعض الطلبة الحاضرين: هذا يلحن فى كلامه، فقلت له فى الوقت:
لحنها معرب وأعجب من ذا
…
أن إعراب غيرها ملحون
وسمعت الشيخ أبا محمد عبد الله بن عمران البكرى يقول: سمعت رجلا من أهل تونس يعرف بابن الخارجى ـ وبنو الخارجى بيت فى تونس يعرفون بالفقه والعلم ـ يقول: كنت أجلس مع شهود تونس للتوثيق، فبينا نحن جلوس ذات يوم، إذ جاءنا الشيخ أبو الحسن الشاذلى، ومعه رجل من أصحابه يريد أن يتزوج، فأخذنا نكتب الصداق، والشيخ واقف، رحمه الله، فأخذ الشيخ أبو الحسن يحكى لنا من بعض أخبار الأولياء. فقلت فى نفسى: مد الشيخ الزلاقة، يعنى بذلك إنه يحب أن يكتب له الصداق بغير شئ.
فلما فرغنا من كتب الصداق، أعطانا الشيخ دينارا ذهبا. وقال: الشيخ ما يمد الزلاقة.
قال: فمن حينئذ صحبته وتركت ما كنت فيه. وكان إذا حكاها يبكى، رحمه الله.
وقال: سمعت أم أبى البركات، ميمونة ابنة أبى عبد الله محمد بن ناصر ـ بمدينة
(5) البيت فى: (فوات الوفيات 3/ 443).
فاس، رحمها الله ـ تقول: كان لوالدى مخزن فيه شعير، فأصاب الناس سنة شديدة، واشتد الغلاء وكثر الضعيف. قالت لى: وكان ذلك المخزن له منفس غير بابه، فأغلق والدى باب المخزن، وكان يخرج الشعير من ذلك المنفس، وكان كل يوم يأمر أهله أن يخرجوا جانبا من الشعير، ويطحنونه، ويخبز منه بعضه خبز، وبعضه حريرة، ويجتمع الضعفاء من أول النهار. فيأمر من يفرقه عليهم.
قالت: فلم يزل كذلك، إلى أن ذهب الشتاء وانجلت تلك الشدة، وتفرق الناس يأكلون من بقول الأرض، ومن أوائل فريك الزرع، وقل الطالب. قالت: فقال والدى: افتحوا هذا المخزن، واكنسوه مما بقى فيه، فقد جاء الحصاد إن شاء الله تعالى.
قالت: ففتحوا المخزن، فوجدوه ما نقص منه شيئا أصلا. وقال: وكانت هذه ميمونة لنا مثل الوالدة، وكانت من خيار الناس وفضلائهم.
وقال: سمعت الإمام محب الدين أبا العباس أحمد بن عبد الله الطبرى المكى يقول ـ بمكة المشرفة ـ: كنت جالسا يوما مع الجماعة المعروفين بدكتهم المعروفة بهم، عند باب إبراهيم من المسجد الحرام، فنظر أحدهم، فرأى فى الطواف فقيرا من أصحابهم، فقال لمن إلى جنبه من الجماعة: أما ترى فلانا يطوف؟ ـ على معنى الغبطة له على الطواف ـ فقال له صاحبه: إذا أردت تطوف، امش إلى السوق، وخذ مد حب، وأوقية سمن وكل وطف، من يقعد معنا ما يذكر طوافا ولا غيره.
ومعنى هذه الحكاية: أن أعمالنا قلبية، لا تتقيّد بالحركات الظاهرة فى كثير من المندوبات، فإن كنت أنت ممن يحب الطواف، فكل الخبز وطف، وكن فيما أنت فيه، ولا تدخل علينا غير ما نحن فيه، فقد قالوا: نفس من ذاكر، خير من ألف ركعة من غيره.
وقال: سمعت الشيخ أبا عبد الله الوشيكى رحمه الله يحكى عن بعض مشايخه، أنه كان يقول: إذا أشكلت عليكم المسائل، فعليكم بالصالحين، فإنه تعالى يقول فى كتابه العزيز:(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)[التغابن: 11]. ومن هدى الله قلبه، فلا إشكال معه أو عنده.
قلت: وهذه الهداية أيضا والله أعلم، فى هداية خاصة، وهى فى قوله تعالى:(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً)[مريم: 76].
وقال: سمعت الفقيه أبا محمد عبد الله بن محمد بن حسن بن عبّاد أيضا، يحكى عن
الإمام الحافظ أبى القاسم بن زانيف، وكان من أكابر علماء زمانه بمدينة فاس، أنه كان يقول: النظر فى وجه الظالم خطيئة، واستعظام ما هو فيه، من الكبائر. ويشبه هذا الكلام، أن يكون مرويا، فإن مثله لا يدرك بالرأى.
قال: وسمعت الشيخ أبا البركات المذكور، يعنى: مبارك بن على التنملى المراكشى يقول: كان أبو عبد الله محمد اللمدانى فى أول أمره، مكاسا بمدينة تونس، فلما تاب على يد الشيخ العارف القدوة، أبى محمد عبد الله بن محمد المرجانى، رحمة الله عليهم، جمع جميع ما كان عنده من الأسباب، فاجتمع من ذلك اثنا عشر ألف دينار، ودنانير الغرب، كل دينار عشرة دراهم. فحملها إلى الشيخ رضى الله عنه، فقبض الشيخ ذلك منه، ثم قال له: لابد لك من سبب تقيم به عيالك، ولا شيء معك، فردها عليه على وجه القرض بمثلها، وتسبب أبو عبد الله اللمدانى فى ذلك المال، وصار مهما فضل له شئ، حمله إلى الشيخ حتى وفى جميع المال، وتصرف فيه الشيخ، رحمه الله، على حسب ما يقتضيه نظره الصالح.
وقال: سمعت الشيخ الصالح أبا محمد عبد الله بن محمد المرجانى ـ رحمه الله تعالى ـ يقول: كنت فى حال الطلب، أنسخ كتاب:«الإكمال» للقاضى عياض، رحمه الله، وكنت فى حال فاقة شديدة، وكنت إذا نسخت الكراس، أعرض على نفسى: أيما أحب إليك، هذا الكراس أو وزنه دراهم؟ .
فكنت أجد عندى أن الكراس أحب إلى من ذلك. وحكى ـ رحمه الله تعالى ـ هذه الحكاية، فى معرض أن العبد إذا كان مرادا بحاله زينها الحق بعينه له، حتى لا يبغى بها بدلا.
وقال: سمعت شيخنا أبا بكر محمد بن محمد القسطلانى، رحمه الله، يقول:
إن الشباب والفراغ والجدة
…
مفسدة للمرء أى مفسدة (6)
وسمعته يقول: من لم يؤدبه والداه، أدبه الليل والنهار. من يخف صوله الليالى، أثر فى وجهه الغبار. انتهى.
مررت يوما بمدينة فاس، بموضع يقال له حجر معدان، فرأيت براءة مطروحة فى الأرض، فقرأتها، فإذا فيها مكتوب:
(6) انظر: (ديوان أبى العتاهية 348).
شغلنا بكسب العلم عن مكسب الغنا
…
كما شغلوا عن مكسب العلم بالوفر
فصار لهم حظ من الجهل والغنا
…
وصار لنا حظ من العلم والفقر
وقال:
جئتمانى لتعلما سر سعدى
…
تجدانى بسر سعدى شحيحا
إن سعدى لمنية المتمنى
…
جمعت عفة ووجها مليحا
وقال: أنشدنى بعض الأصحاب بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن فى بنى سلمة، عند بئر رومة (7)، لبعضهم:
لله قوم إذا حلوا بمنزلة
…
حل الندى ويسير الجود إن ساروا
تحيا بهم كل أرض ينزلون بها
…
كأنهم لبقاع الأرض أمطار
وقال: أخبرنى الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الزبيدى قال: أخبرنى الفقيه محمد الصمعى، وكان شيخا معمرا قد أدرك المتقدمين، قال: أخبرنى والدى أنه كان حاضرا حين أخرج الملك المسعود بن الملك الكامل، الشيخ محمد بن أبى الباطل، من بلاد اليمن، وعزم على تسفيره إلى بلاد الهند، فحضر جماعة لوداعه، فأنشده بعضهم:
ليت شعرى أى أرض أجدبت
…
فأغيثت بك من بعد تلف
ساقك الله إليها رحمة
…
وحرمناك بذنب قد سلف
فوصل الشيخ إلى ثغر عدن، وتوفى بها إلى رحمة الله تعالى. فكان رحمة لأهل عدن، رحمه الله ورضى عنه، ونفعنا ببركته آمين.
وقال: سمعت الأخ الكريم القدوة، أبا أحمد خليفة بن عطيفة، صاحب الشيخ أبى العباس المرسى يقول: سمعت سيدى أبا العباس ـ رضى الله عنه ـ يقول: العارف هو الذى تم له السبيل إلى كل شئ.
ودخلت على الشيخ أبى عبد الله الوشيكى ـ رحمه الله تعالى ـ بمنزله بمدينة فاس، مودعا له عند سفرى إلى المشرق، سنة تسع وسبعين وستمائة، فقال لى: أوصيك؟ قلت: نعم. قال: إذا قيل لك هذه مكة شرفها الله تعالى وهذا رجل من أهل الله، فابدأ بالرجل. وليتنى فعلت ما قال لى، فإنه يفوت، ومكة شرفها الله تعالى، لا تفوت.
(7) بئر رومة: بضم الراء، وسكون الواو، وفتح الميم: وهى بئر فى عقيق المدينة ولها قصى فى صحيح البخارى فى مناقب عثمان بن عفان حين اشترى البئر من اليهودى. انظر معجم البلدان (بئر رومة).