الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله في سورة "الشعراء": {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَال رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَال كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالمِينَ (16)} فهذه الآيات تبين أنه سأل ربه أن يرسل معه أخاه، فأجاب ربه جل وعلا سؤاله في ذلك. وذلك يبين أن الهبة في قوله:{وَوَهَبْنَا} هي في الحقيقة واقعة على رسالته لا على نفس هارون؛ لأن هارون أكبر من موسى، كما قاله أهل التاريخ.
•
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)}
.
أمر اللهُ جل وعلا نبيَّه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يذكر في الكتاب وهو هذا القرآن العظيم جدَّه إسماعيل، وأثنى عليه -أعني إسماعيل- بأنه كان صادق الوعد وكان رسولًا نبيًّا. ومما يبين من القرآن شدة صدقه في وعده: أنه وعد أباه بصبره على ذبحه ثم وفَّى بهذا الوعد. ومن وفي بوعده في تسليم نفسه للذبح فإن ذلك من أعظم الأدلة على عظيم صدقه في وعده؛ قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَال يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَال يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} فهذا وعده. وقد بين تعالى وفاءه به في قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
…
} الآية. والتحقيق أن الذبيح هو إسماعيل. وقد دلت على ذلك آيتان من كتاب الله تعالى دلالة واضحة لا لبس فيها. وسنوضح ذلك إن شاء الله غاية الإيضاح في سورة "الصافات". وثناؤه جل وعلا في
هذه الآية الكريمة على نبيه إسماعيل بصدق الوعد يفهم من دليل خطابه -أعني مفهوم مخالفته- أن إخلاف الوعد مذموم. وهذا المفهوم قد جاء مبينا في مواضع أخر من كتاب الله تعالى؛ كقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} ، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} إلى غير ذلك من الآيات. وفي الحديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أوتُمِن خان".
وقوله تعالى في هذه الآية: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} ، قد بين في مواضع أخر: أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك الذي أثنى الله به على جده إسماعيل، كقوله تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيهَا .. } الآية. ومعلوم أنه امتثل هذا الأمر. وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا .. } الآية. ويدخل في ذلك أمرهم أهليهم بالصلاة والزكاة؛ إلى غير ذلك من الآيات.
مسألة
اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد؛ فقال بعضهم: يلزم الوفاء به مطلقًا. وقال بعضهم: لا يلزم مطلقًا. وقال بعضهم: إن أدخله بالوعد في ورطة لزم الوفاء به، وإلا فلا. ومثاله: ما لو قال له: تزوج. فقال له: ليس عندي ما أصدق به الزوجة. فقال: تزوج والتزم لها الصداق وأنا أدفعه عنك، فتزوج على هذا الأساس، فإنه قد أدخله بوعده في ورطة التزام الصداق. واحتج من قال يلزمه: بأدلة منها آيات من كتاب الله دلت بظواهر عمومها على ذلك
وبأحاديث. فالآيات كقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} ، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .. } الآية، وقوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا .. } الآية، وقوله هنا:{إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} الآية، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث كحديث "العِدَة دَين" فجَعْلها دينًا دليل على لزومها. قال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس:"العدة دين" رواه الطبراني في الأوسط والقضاعي وغيرهما عن ابن مسعود بلفظ قال: لا يعد أحدكم صبِيَّه ثم لا ينجز له، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"العِدَة دين" ورواه أبو نعيم عنه بلفظ: إذا وعد أحدكم صبيه فلينجز له، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وذكره بلفظ "عطية". ورواه البخاري في الأدب المفرد موقوفًا، ورواه الطبراني، والديلمي عن علي مرفوعًا بلفظ:"العِدَة دين، ويل لمن وعد ثم أخلف، ويل له .. " ثلاثًا. ورواه القضاعي بلفظ الترجمة فقط. والديلمي أيضًا بلفظ: "الواعد بالعدة مثل الدين أو أشد" أي: وَعْد الواعد. وفي لفظ له "عدة المؤمن دين. وعدة المؤمن كالأخذ باليد". وللطبراني في الأوسط عن قَباث بن أشيم الليثي مرفوعًا: "العدة عطية". وللخرائطي في المكارم عن الحسن البصري مرسلًا: أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فلم تجد عنده، فقالت: عِدْني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العِدَة عطية"، وهو في مراسيل أبي داود. وكذا في الصمت لابن أبي الدنيا عن الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العدة عطية". وفي رواية لهما عن الحسن أنه قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، فقال:"ما عندي ما أعطيك"، قال في المقاصد بعد ذكر الحديث وطرقه:
وقد أفردته مع ما يلائمه بجزء. انتهى منه.
وقد عَلَّم في الجامع الصغير على هذا الحديث من رواية علي عند الديلمي في مسند الفردوس بالضعف. وقال شارحه المناوي: وفيه دارم بن قبيصة، قال الذهبي: لا يعرف اهـ. ولكن قد مر بك أن طرقه متعددة. وقد رُوِيَ عن غير علي من الصحابة كما قدمنا روايته عن ابن مسعود، وقَبَاث بن أشيم الكناني الليثي رضي الله عنهما. وسيأتي في هذا المبحث إن شاء الله أحاديث صحيحة دالة على الوفاء بالوعد.
واحتج من قال بأن الوعد لا يلزم الوفاء به: بالإجماع على أن من وعد رجلًا بمال إذا فلس الواعد لا يضرب للموعود بالوعد مع الغرماء، ولا يكون مثل ديونهم اللازمة بغير الوعد، حكى الإجماع على هذا ابن عبد البر؛ كما نقله عنه القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة، وفيه مناقشة. وحجة من فرق بين إدخاله إياه في ورطة بالوعد فيلزم. وبين عدم إدخاله إياه فيها فلا يلزم: أنه إذا أدخله في ورطة بالوعد، ثم رجع في الوعد وتركه في الورطة التي أدخله فيها؛ فقد أضرَّ به. وليس للمسلم أن يضر بأخيه، لحديث:"لا ضرر ولا ضرار".
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال مالك: إذا سأل الرجلُ الرجلَ أن يهب له الهبة فيقول له: نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه. قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال: نعم، وثَمَّ رجال يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزم منها شيء؛ لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض، فلصاحبها الرجوع فيها. وفي البخاري:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} وقضى ابن أشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سَمُرة بن جندب، قال البخاري: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتجُ بحديث ابن أشوع. اهـ كلام القرطبي. وكلام البخاري الذي ذكر القرطبي بعضه، هو قوله في آخر (كتاب الشهادات): باب من أمر بإنجاز الوعد، وفَعَله الحسن، واذكر في الكتاب
(1)
إسماعيل إنه كان صادق الوعد، وقضى ابنُ الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سَمُرة. وقال المسور بنِ مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر صهرًا له، قال: وعَدَني فَوَفى لي. قال أبو عبد الله: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع. حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله: أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره قال: أخبرني أبو سفيان: أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم؛ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال: وهذه صفة نبي. حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية
(1)
في البخاري (3/ 180) طبع بولاق: "وفَعَلَه الحسنُ، وذَكَرَ إسماعيلَ إنه كان صادق الوعد .. ". وعليها علامة التصحيح.
المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا أوتمن خان، وإذا وعد أخلف". حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج قال: أخبرني عَمرو بن دينار عن محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قِبَل العلاء بن الحضرمي، فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قِبَله عِدَة فليأتنا. قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات. قال جابر: فعدَّ في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة. حدثنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان بن شجاع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير: قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أيَّ الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس، قال: قضى أكثرهما وأطيبهما. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل. انتهى من صحيح البخاري.
وقوله في ترجمة الباب المذكور: "وفَعَله الحسن" يعني الأمر بإنجاز الوعد. ووجه احتجاجه بآية {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} أن الثناء عليه بصدق الوعد يُفْهَم منه أن إخلافه مذموم فاعله، فلا يجوز. وابن الأشوع المذكور هو سعيد بن عَمْرو بن أشوع الهَمْداني الكوفي، كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وقد وقع بيان روايته المذكورة عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه، وهو إسحاق ابن إبراهيم الذي ذكر البخاري أنه رآه يحتج بحديث ابن أشوع، كما قاله ابن حجر في الفتح. والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد.
وصهر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى عليه بوفائه له بالوعد هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسره المسلمون يوم بدر كافرا، وقد وعده بردِّ ابنته زينب إليه وردَّها إليه. خلافًا لمن زعم أن الصهر المذكور أبو بكر رضي الله عنه. وقد ذكر البخاري في الباب المذكور أربعة أحاديث في كل واحد منها دليل على الوفاء بإنجاز الوعد.
الأول: حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل وهو طرف من حديث صحيح مشهور. ووجه الدلالة منه في قوله: "فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة"، فإن جميع المذكورات في هذا الحديث مع الوفاء بالعهد كلها واجبة، وهي الصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة. وقد ذكر بعد ذلك أن هذه الأمور صفة نبيّ، والاقتداء بالأنبياء واجب.
الثاني: حديث أبي هريرة في آية المنافق. ومحل الدليل منه قوله: "وإذا وعد أخلف" فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسِمَ بسمات المنافقين.
الثالث: حديث جابر في قصته مع أبي بكر: ووجه الدلالة منه أن أبا بكر قال: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قِبَله عِدَة .. الحديث. فجعل العدة كالدين، وأنجز لجابر ما وعده النبي صلى الله عليه وسلم من المال؛ فدل ذلك على الوجوب.
الرابع: حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى: ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل. فعلى المؤمنين الاقتداء بالرسل، وأن يفعلوا إذا
قالوا. وفي الاستدلال بهذه الأحاديث مناقشات من المخالفين. ومن أقوى الأدلة في الوفاء بالعهد قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} ؛ لأن المقت الكبير من الله على عدم الوفاء بالقول يدل على التحريم الشديد في عدم الوفاء به. وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على ترجمة الباب المذكور: وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض؛ لاتفاقهم على أن الموعود لا يضاربا بما وعد به مع الغرماء اهـ. ونَقْل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل؛ وقال ابن عبد البر وابن العربي أَجَلُّ من قال به عمرُ بن عبد العزيز. انتهى محل الغرض من كلام الحافظ في الفتح. وقال أيضًا: وخرَّج بعضُهم الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في الهبة، هل تُمْلك بالقبض أو قبله.
فإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة. وما استدل به كل فريق منهم؛ فاعلم أن الذي يظهر لي في هذه المسألة -والله تعالى أعلم-: أن إخلاف الوعد لا يجوز، لكونه من علامات المنافقين، ولأن الله يقول:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبرًا؛ بل يؤمر به ولا يجبر عليه، لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يُجْبر على الوفاء به؛ لأنه وعد بمعروف محض. والعلم عند الله تعالى.
• قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ
وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَينَا وَاجْتَبَينَا إِذَا تُتْلَى عَلَيهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)}.
الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ} راجعة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة الكريمة. وقد بين الله هنا أنه أنعم عليهم واجتباهم وهداهم. وزاد على هذا في سورة "النساء" بيان جميع من أنعم عليهم من غير الأنبياء في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} . وبين في سورة الفاتحة: أن صراط الذين أنعم عليهم غير صراط المغضوب عليهم ولا الضالين فِي قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} . وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: قال السدي وابن جرير رحمهما الله: فالذي عنى به {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} : إدريس. والذي عنى به من ذرية {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} : إبراهيم. والذي عنى به {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} : إسحاق ويعقوب وإسماعيل. والذي عنى به من ذرية {وَإِسْرَائِيلَ} : موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم. قال ابن جرير: ولذلك فرَّق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم؛ لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس فإنه جد نوح.
قلت: هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقد قيل: إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذًا من حديث الإسراء حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم: مرحبًا بالنبي الصالح، والأخ الصالح، ولم يقل والولد الصالح، كما قال آدم وإبراهيم عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. انتهى
الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى.
وقال ابن كثير أيضًا في تفسير هذه الآية الكريمة: يقول تعالى هؤلاء النبيون، وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط؛ بل جنس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس، إلى أن قال في آخر كلامه: ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة "الأنعام": {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَينَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَينَا وَنُوحًا هَدَينَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيمَانَ -إلى قوله- أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} اهـ. وقد قال تعالى في صفة هؤلاء المذكورين في "الأنعام": {وَاجْتَبَينَاهُمْ وَهَدَينَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)} . كما قال في صفة هؤلاء المذكورين في سورة "مريم": {وَمِمَّنْ هَدَينَا وَاجْتَبَينَا} .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِذَا تُتْلَى عَلَيهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)} بين فيه أن هؤلاء الأنبياء المذكورين إذا تتلى عليهم آيات ربهم بكوا وسجدوا. وأشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر بالنسبة إلى المؤمنين لا خصوص الأنبياء، كقوله تعالى:{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} ، وقوله:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} ، وقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} ، وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ