الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} ، وقوله:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} إلى غير ذلك من الآيات.
•
قوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}
.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لا يظلم أحدًا، فلا ينقص من حسنات محسن، ولا يزيد من سيئات مسيء، ولا يعاقب على غير ذنب.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} ، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَال ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} ، وقوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَال حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} ، وقوله:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} ، وقوله:{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)} ، وقوله:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)} والآيات بمثل ذلك كثيرة.
•
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}
.
قدمنا في سورة "البقرة" أن قوله تعالى: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} محتمل لأن يكون أمرهم بذلك قبل وجود آدم أمرًا معلقًا على وجوده. ومحتمل لأنه أمرهم بذلك تنجيزًا بعد وجود آدم. وأنه جل وعلا بين في سورة "الحجر" وسورة "ص" أن أصل الأمر بالسجود متقدم على خلق آدم معلق عليه. قال في "الحجر": {وَإِذْ قَال رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)} ، وقال في "ص":{إِذْ قَال رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} ولا ينافي هذا أنه بعد وجود أدم جدد لهم الأمر بالسجود له تنجيزًا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَسَجَدُوا} محتمل لأن يكونوا سجدوا كلهم أو بعضهم، ولكنه بين في مواضع أخر أنهم سجدوا كلهم، كقوله:{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)} ونحوها من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ظاهر في أن سبب فسقه عن أمر ربه كونه من الجن. وقد تقرر في الأصول في "مسلك النص" وفي "مسلك الإيماء والتنبيه": أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل، كقولهم: سرق فقطعت يده، أي لأجل سرقته. وسها فسجد، أي لأجل سهوه، ومن هذا القبيل قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} أي لعلة سرقتهما. وكذلك قوله هنا: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أي لعلة كينونته من الجن، لأن هذا الوصف فرق بينه وبين الملائكة، لأنهم امتثلوا الأمر وعصا هو. ولأجل ظاهر هذه الآية الكريمة ذهبت جماعة من العلماء إلى أن إبليس ليس من الملائكة في الأصل بل من الجن، وأنه كان يتعبد معهم، فأطلق عليه اسمهم لأنه تبع لهم، كالحليف في القبيلة يطلق عليه اسمها.
والخلاف في إبليس هل هو ملك في الأصل وقد مسخه الله شيطانًا، أو ليس في الأصل بملك، وإنما شمله لفظ الملائكة
لدخوله فيهم وتعبده معهم؛ مشهور عند أهل العلم. وحجة من قال: إن أصله ليس من الملائكة أمران: أحدهما: عصمة الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس؛ كما قال تعالى عنهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} ، وقال تعالى:{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)} . والثاني: أن الله صرح في هذه الآية الكريمة بأنه من الجن، والجن غير الملائكة. قالوا: وهو نص قرآني في محل النزاع. واحتج من قال: إنه ملك في الأصل بما تكرر في الآيات القرآنية من قوله: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إلا إِبْلِيسَ} قالوا: فإخراجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم. وقال بعضهم: والظواهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص. ومن المعلوم أن الأصل في الاستثناء الاتصال لا الانقطاع. قالوا: ولا حجة لمن خالفنا في قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} لأن الجن قبيلة من الملائكة، خلقوا من بين الملائكة من نار السموم كما روي عن ابن عباس. والعرب تعرف في لغتها إطلاق الجن على الملائكة؛ ومنه قول الأعشى في سليمان بن داود:
وسخَّر من جن الملائك تسعة
…
قيامًا لديه يعملون بلا أجر
قالوا: ومن إطلاق الجن على الملائكة قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَينَهُ وَبَينَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} عند من يقول: بأن المراد بذلك قولهم: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علوًا كبيرًا- وممن جزم بأنه ليس من الملائكة في الأصل لظاهر هذه الآية الكريمة: الحسن البصري، ونصره الزمخشري في تفسيره. وقال القرطبي في تفسير سورة "البقرة": إن كونه من الملائكة هو
قول الجمهور: ابن عباس، وابن مسعود، وابن جريج، وابن المسيب، وقتادة وغيرهم. وهو اختيار الشيخ أبي الحسن، ورجحه الطبري، وهو ظاهر قوله:{إلا إِبْلِيسَ} اهـ. وما يذكره المفسرون عن جماعة من السلف كابن عباس وغيره: من أنه كان من أشراف الملائكة، ومن خزان الجنة، وأنه كان يدبر أمر السماء الدنيا، وأنه كان اسمه عزازيل، كله من الإسرائيليات التي لا معول عليها.
وأظهر الحجج في المسألة؛ حجة من قال: إنه غير ملك؛ لأن قوله تعالى: {إلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ .. } الآية، هو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي خرج عن طاعة أمر ربه. والفسق في اللغة: الخروج؛ ومنه قول رؤية بن العجاج:
يَهْوِينَ في نجد وغورًا غائرا
…
فواسقًا عن قَصْدِها جوائرا
وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه. فلا حاجة لقول من قال: إن {عَنْ} سببية، كقوله:{وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} أي بسببه، وأن المعنى: ففسق عن أمر ربه، أي بسبب أمره حيث لم يمتثله، ولا غير ذلك من الأقوال.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} الهمزة فيه للإنكار والتوبيخ، ولا شك أن فيها معنى الاستبعاد كما تقدم نظيره مرارًا. أي: أَبَعْدَ ما ظهر منه من الفسق والعصيان، وشدة العداوة لكم ولأبويكم آدم
وحواء، تتخذونه وذريته أولياء من دون خالقكم جل وعلا! بئس للظالمين بدلًا من الله إبليس وذريته! وقال:{لِلظَّالِمِينَ} لأنهم اعتاضوا الباطل من الحق، وجعلوا مكان ولايتهم لله ولايتهم لإبليس وذريته. وهذا من أشنع الظلم الذي هو في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه؛ كما تقدم مرارًا. والمخصوص بالذم في الآية محذوف دل عليه المقام، وتقديره: بئس البدل من الله إبليس وذريته. وفاعل {بِئْسَ} ضمير محذوف يفسره التمييز الذي هو {بَدَلًا (50)} على حد قوله له في الخلاصة:
ويرفعان مضمرًا يفسره
…
مميز كنعم قومًا معشره
والبدل: العوض من الشيء، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من عداوة الشيطان لبني آدم جاء مبينًا في آيات أخر؛ كقوله:{إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} . وكذلك الأبوان، كما قال تعالى:{فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} .
وقد بين في غير هذا الموضع: أن الذين اتخذوا الشياطين أولياء بدلًا من ولاية الله يحسبون أنهم في ذلك على حق؛ كقوله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)} . وبين في مواضع أخر أن الكفار أولياء الشيطان؛ كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيطَانِ
…
} الآية، وقوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
…
} الآية، وقوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (175)}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَذُرِّيَّتَهُ} دليل على أن للشيطان ذرية؛ فادعاء أنه لا ذرية له مناقض لهذه الآية مناقضة صريحة كما ترى. وكل ما ناقض صريح القرآن فهو باطل بلا شك! ولكن طريقة وجود نسله هل هي عن تزويج أو غيره، لا دليل عليها من نص صريح، والعلماء مختلفون فيها. وقال الشعبي: سألني رجل: هل لإبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهده! ثم ذكرت قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة فقلت: نعم. وما فهمه الشعبي من هذه الآية من أن الذرية تستلزم الزوجة رُوي مثله عن قتادة. وقال مجاهد: إن كيفية وجود النسل منه أنه أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات؛ قال: فهذا أصل ذريته. وقال بعض أهل العلم: إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرًا، وفي اليسرى فرجًا، فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانًا وشيطانة. ولا يخفى أن هذه الأقوال ونحوها لا معوَّل عليها لعدم اعتضادها بدليل من كتاب أو سنة. فقد دلت الآية الكريمة على أن له ذرية. أما كيفية ولادة تلك الذرية فلم يثبت فيه نقل صحيح، ومثله لا يعرف بالرأي. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: قلت: الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني: أنَّه خرج في كتابه مسندًا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ، من رواية عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من
يخرج منها، فيها باض الشيطان وفرخ" وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه.
قال مقيده -عفا الله عنه-: هذا الحديث إنما يدل على أنه يبيض ويفرخ، ولكن لا دلالة فيه على ذلك؛ هل هي من أنثى هي زوجة له، أو من غير ذلك. مع أن دلالة الحديث على ما ذكرنا لا تخلو من احتمال؛ لأنه يكثر في كلام العرب إطلاق باض وفرخ على سبيل المثل؛ فيحتمل معنى باض وفرخ أنه فعل بها ما شاء من إضلال وإغواء ووسوسة ونحو ذلك على سبيل المثل، لأن الأمثال لا تُغَيَّر ألفاظها.
وما يذكره كثير من المفسرين وغيرهم من تعيين أسماء أولاده ووظائفهم التي قلدهم إياها؛ كقوله: زَلَنْبور صاحب الأسواق. وثَبْر صاحب المصائب يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب ونحو ذلك. والأعور صاحب أبواب الزنى، ومِسْوَط صاحب الأخبار يلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلًا. وداسم هو الشيطان الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلِّم ولم يذكر اسم الله بَصَّرَه ما لم يرفع من المتاع وما لم يحسن موضعه يثير شره على أهله. وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. والولهان صاحب الطهارة يوسوس فيها. والأقيس صاحب الصلاة يوسوس فيها. ومرة صاحب المزامير وبه كان يكنى إبليس، إلى غير ذلك من تعيين أسمائهم ووظائفهم؛ كله لا معول عليه؛ إلا ما ثبت منه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من تعيين وظيفة الشيطان واسمه ما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن خلف الباهلي،