الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكريمة. وإطلاق الوحي على الكتابة مشهور في كلام العرب، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
فمدافع الريَّان عُرِّي رسمُها
…
خلقًا كما ضمن الوُحِيَّ سلامها
فقوله "الوُحِيّ" بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء، جمع وَحْي بمعنى الكتابة. وقول عنترة:
كوَحْي صحائف من عهد كسرى
…
فأهداها لأعجم طَمْطَمِي
وقول ذي الرمة:
سوى الأرْبُعِ الدُّهْم اللواتي كأنها
…
بقيةُ وَحْي في بطونِ الصحائفِ
وقول جرير:
كأنَّ أخا الكتاب يخطُّ وحيًا
…
بكافٍ في منازلها ولام
•
قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}
.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن زكرياء خرج على قومه من المحراب فأشار إليهم، أو كتب لهم: أن سبحوا الله أول النهار وآخره. فالبكرة أول النهار، والعشي آخره. وقد بين تعالى في "آل عمران" أن هذا الذي أمر به زكرياء قومه بالإشارة أو الكتابة من التسبيح بكرة وعشيًّا: أن الله أمر زكرياء به أيضًا، وذلك في قوله:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)} . والظاهر أن هذا المحراب الذي خرج منه على قومه هو المحراب الذي بشر بالولد وهو قائم يصلي فيه، المذكور في قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ
الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}. قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: والمحراب: أرفع المواضع، وأشرف المجالس. وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض اهـ. وقال الجوهري في صحاحه: قال الفراء: المحاريب: صدور المجالس، ومنه سمي محراب المسجد، والمحراب: الغرفة. قال وضاح اليمن:
ربة محراب إذا جئتها
…
لم ألقها أو أرتقي سلمًا
ومن هذا المعنى قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} الآية.
تنبيه
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة. مشروعية ارتفاع الإمام على المأمومين في الصلاة؛ لأن المحراب موضع صلاة زكرياء، كما دل عليه قوله:{وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} . والمحراب أرفع من غيره، فدل ذلك على ما ذكر. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره: هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعًا عندهم. وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره، متمسكًا بقصة المنبر، ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير. وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام.
قلت: وهذا فيه نظر، وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان؛ فأخذ أبو مسعود
بقميصه فجبذه؛ فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا، أو ينهى عن ذلك؟ قال: بلى، ذكرت ذلك حين مددتني. وروى أيضًا عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن؛ فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة. فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم" أو نحو ذلك؟ فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.
قلت: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر؛ فدل على أنه منسوخ، ومما يدل على نسخه: أن فيه عملًا زائدًا في الصلاة وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام. وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصومًا من الكبر؛ لأن كثيرًا من الأئمة يوجدون لا كبر عندهم. ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرًا، والله أعلم. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى.
قال مقيده -عفا الله عنه-: سنتكلم هنا إن شاء الله تعالى على الأحاديث المذكورة، ونبين أقوال العلماء في هذه المسألة، وأدلتهم وما يظهر رجحناه بالدليل.
أما الحديثان اللذان ذكرهما القرطبي عن أبي داود فقد ساقهما أبو داود في سننه حدثنا أحمد بن سنان وأحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي المَعْنيّ قال: ثنا يعلى ثنا الأعمش عن إبراهيم عن
همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، إلى آخر الحديث. ثم قال أبو داود رحمه الله: حدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني أبو خالد عن عدي بن ثابت الأنصاري، حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن. إلى آخر الحديث.
ولا يخفى أن هذا الحديث الأخير ضعيف، لأن الراوي فيه عن عمار رجل لا يدرى من هو كما ترى. وأما الأثر الأول فقد صححه غير واحد، ورُوي مرفوعًا صريحًا. قال ابن حجر في التلخيص في الكلام على الأثر والحديث المذكورين: ويعارضه ما رواه أبو داود من طريق همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وفي رواية للحاكم التصريح برفعه. ورواه أبو داود من وجه آخر، وفيه أن الإمام كان عمار بن ياسر، والذي جبذه حذيفة، وهو مرفوع لكن فيه مجهول. والأول أقوى، ويقويه ما رواه الدارقطني من وجه آخر عن همام عن أبي مسعود. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه أسفل منه. اهـ من التلخيص.
وقال النووي في شرح المهذب في الكلام على حديث صلاة حذيفة على الدكان وجبذ أبي مسعود له المذكور: رواه الشافعي وأبو داود والبيهقي؛ ومن لا يحصى من كبار المحدثين ومصنفيهم، وإسناده صحيح. ويقال: جذب وجبذ، لغتان مشهورتان اهـ منه.
وأما قصة المنبر التي أشار لها القرطبي، وقال: إنها حجة من يجيز ارتفاع الإمام على المأموم؛ فهي حديث سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر في أول يوم وضع، فكبر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ، فلما انصرف قال:"أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي" متفق عليه.
أما أقوال الأئمة في هذه المسألة: فمذهب الشافعي فيها هو كراهة علو الإمام على المأموم. وكذلك عكسه إلا إذا كان ذلك لغرض صحيح محتاج إليه، كارتفاع الإمام ليعلم الجاهلين الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على المنبر، وبين أنه فعل ذلك لقصد التعليم، وكارتفاع المأموم ليبلغ غيره من المأمومين تكبيرات الإمام، فإن كان ارتفاع أحدهما لنحو هذا الغرض استحب له الارتفاع لتحصيل الغرض المذكور.
قال النووي في شرح المهذب: هذا مذهبنا، وهو رواية عن أبي حنيفة، وعنه رواية: أنه يكره الارتفاع مطلقًا، وبه قال مالك والأوزاعي. وحكى الشيخ أبو حامد عن الأوزاعي: أنه قال تبطل به الصلاة.
وأما مذهب مالك في المسألة ففيه تفصيل بين علو الإمام على المأموم وعكسه. فعلو المأموم جائز عنده. وقد رجع إلى كراهته، وبقى بعض أصحابه على قوله بجوازه. وعلو الإمام لا يعجبه. وفي المدونة قال مالك: لا بأس في غير الجمعة أن يصلي الرجل بصلاة الإمام على ظهر المسجد والإمام في داخل المسجد.
ثم كرهه. وأخذ ابن القاسم بقوله الأول. انتهى بواسطة نقل المواق في الكلام على قول خليل بن إسحاق في مختصره عاطفًا على ما يجوز: "وعلو مأموم ولو بسطح". وفي المدونة أيضًا قال مالك: إذا صلى الإمام بقوم على ظهر المسجد والناس خلفه أسفل من ذلك فلا يعجبني. انتهى بواسطة نقل المواق أيضًا. وقوله "لا يعجبني" ظاهر في الكراهة. وحمله بعضهم على المنع. وفي وجوب إعادة الصلاة قولان. ومحل الخلاف ما لم يقصد المرتفع بارتفاعه التكبر على الناس، فإن قصد ذلك بطلت صلاته عندهم إمامًا كان أو مأمومًا. وهذه المسألة ذكرها خليل بن إسحاق في مختصره في قوله:"وعلو مأموم ولو بسطح لا عكسه، وبطلب بقصد إمام ومأموم به الكبر إلا بكشبرٍ اهـ. وقوله "إلا بكشبر" يعني إلا أن يكون الارتفاع بكشبرٍ، ونحو الشبر عظم الذراع عندهم. ومحل جواز الارتفاع اليسير المذكور ما لم يقصد به الكبر. فقوله "إلا بكشبر" مستثنى من قوله "لا عكسه" لا من مسألة قصده الكبر فالصلاة فيها باطلة عندهم مطلقًا: قال المواق في شرحه لكلام خليل المذكور من المدونة: كره مالك وغيره أن يصلي الإمام على شيء أرفع مما يصلي عليه من خلفه، مثل الدكان يكون في المحراب ونحوه. قال ابن القاسم: فإن فعل أعادوا أبدًا، لأنهم يعبثون إلا أن يكون ذلك دكانًا يسير الارتفاع مثل ما كان عندنا بمصر فتجزئهم الصلاة. قال أبو محمد: مثل الشبر وعظم الذراع؛ إلى أن قال: وانظر إذا صلى المقتدي كذلك أعني على موضع مرتفع قصدًا إلى التكبر عن مساواة الإمام. قال ابن بشير: صلاته أيضًا باطلة، اهـ محل الغرض منه. وقول ابن القاسم "لأنهم يعبثون" يعني برفع ذلك البنيان الذي
يصلي عليه الإمام، كما قال تعالى عن نبيه هود مخاطبًا لقومه عاد:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)} وإذا ارتفعت مع الإمام طائفة من المصلين سائر الناس؛ أعني ليست من أشراف الناس وأعيانهم، ففي نفي الكراهة بذلك خلاف عندهم وإليه أشار خليل في مختصره بقوله:"وهل يجوز إن كان مع الإمام طائفة كغيرهم تردد". هذا هو حاصل مذهب مالك في هذه المسألة.
وأما مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة: فهو أن ارتفاع كل من الإمام والمأموم على الآخر مكروه. وقال الطحاوي: لا يكره علو المأموم على الإمام، ومحل الكراهة عند الحنفية في الارتفاع غير اليسير، ولا كراهة عندهم في اليسير. وقدر الارتفاع الموجب للكراهة عندهم قدر قامة، ولا بأس بما دونها، ذكره الطحاوي، وهو مروي عن أبي يوسف. وقيل: هو مقدر بقدر ما يقع عليه الامتياز. وقيل: مقدر بقدر ذراع اعتبارًا بالسترة. قال صاحب تبيين الحقائق: وعليه الاعتماد. وإن كان مع الإمام جماعة في مكانه المرتفع، وبقية المأمومين أسفل منهم فلا يكره ذلك على الصحيح عندهم. انتهى بمعناه من تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق.
وأما مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة: فهو التفصيل بين علو الإمام على المأموم، فيكره على المشهور من مذهب أحمد. وبين علو المأموم على الإمام فيجوز. قال ابن قدامة في المغني: المشهور في المذهب أنه يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين، سواء أراد تعليمهم الصلاة، أو لم يرد. وهو قول مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي. ورُوي عن أحمد ما يدل على أنه لا
يكره. اهـ. محل الغرض منه. وقال في المغني أيضًا: فإن صلى الإمام في مكان أعلى من المأمومين فقال ابن حامد: لا تصح صلاتهم. وهو قول الأوزاعي؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه. وقال القاضي: لا تبطل، وهو قول أصحاب الرأي. اهـ محل الغرض منه.
فإذا عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة؛ فاعلم أن حجة من كره علو الإمام على المأموم أو منعه؛ هي ما قدمنا في قصة جبذ أبي مسعود لحذيفة لمَّا أمَّ الناس، وقام يصلي على دكان. الحديث المتقدم. وقد بينا أقوال أهل العلم في الحديث المذكور. وحجة من أجاز ذلك للتعليم حديث سهل بن سعد المتفق عليه في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وجواب المخالفين عن صلاته على المنبر بأنه ارتفاع يسير، وذلك لا بأس به، أو بأنه منسوخ كما تقدم في كلام القرطبي.
وحجة من أجاز علو المأموم على الإمام ما رُوِي عن أبي هريرة: أنه صلى بصلاة الإمام وهو على سطح المسجد. قال ابن حجر في التلخيص: رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد قال: حدثني صالح مولى التوأمة أنه رأى أبا هريرة يصلي فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد. ورواه البيهقي من حديث القعنبي عن ابن أبي ذئب عن صالح، ورواه سعد بن منصور، وذكره البخاري تعليقًا. انتهى محل الغرض من كلامه. فقد رأيت مذاهب العلماء في المسألة وأدلتهم.
قال مقيده -عفا الله عنه-: والذي يظهر -والله تعالى أعلم-