الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه الآية الكريمة تدل على اقتضاء الأمر للوجوب؛ لأنه أطلق اسم المعصية على عدم امتثال الأمر، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة؛ كقوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} ، وقوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فجعل أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم مانعا من الاختيار، موجبا للامتثال. وقوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} فوبخه هذا التوبيخ الشديد على عدم امتثال الأمر المدلول عليه بصيغة أفعل في قوله تعالى: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} . وجماهير الأصوليين على أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب للأدلة التي ذكرنا وغيرها مما هو مماثل لها؛ وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله:
وافعل لدى الأكثر للوجوب
…
وقيل للندب أو المطلوب
الخ.
•
.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هارون قال لأخيه موسى: {يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} وذلك يدل على أنه لشدة غضبه أراد أن يمسك برأسه ولحيته. وقد بين تعالى في "الأعراف" أنه أخذ برأسه يجره إليه؛ وذلك في قوله: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيهِ} ، وقوله:{وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)} من بقية كلام هارون؛
أي: خشيت أن تقول: فرقت بين بني إسرائيل، وأن تقول لي: لم ترقب قولي، أي: لم تعمل بوصيتي وتمتثل أمري.
تنبيه
هذه الآية الكريمة بضميمة آية "الأنعام" إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية، فهي دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها. وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} الآية. ثم إنه تعالى قال بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك أمر لنا؛ لأن أمر القدوة أمر لأتباعه، كما بينا إيضاحه بالأدلة القرآنية في هذا الكتاب المبارك في سورة "المائدة" وقد قدمنا هناك: أنه ثبت في صحيح البخاري: أن مجاهدًا سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في "ص" قال: أوَ ما تقرأ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ .. أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
. فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في سورة "الأنعام"، وعلمت أن أمره أمر لنا؛ لأن لنا فيه الأسوة الحسنة، وعلمت أن هارون كان موفرًا شعر لحيته بدليل قوله
(1)
رواية البخاري كما في ص 6 ص 134 طبع بولاق سنة 1314:
"عن العوام قال: سألت مجاهدًا عن سجدة ص، فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت؟ فقال: أو ما تقرأ: "ومن ذريته داود وسليمان
…
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به. فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
لأخيه: {لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} ؛ لأنه لو كان حالقًا لما أراد أخوه الأخذ بلحيته. تبين لك من ذلك بإيضاح: أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن العظيم، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم. والعجب من الذين مسخت ضمائرهم، واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية، وشرف الرجولة، إلى خنوثة الأنوثة، ويمثلون بوجوههم بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى وهو اللحية. وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وهو أجمل الخلق وأحسنهم سورة. والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها: ليس فيهم حالق. نرجو الله أن يرينا وإخواننا المؤمنين الحق حقًّا، ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه.
أما الأحاديث النبوية الدالة على إعفاء اللحية، فلسنا بحاجة إلى ذكرها لشهرتها بين الناس، وكثرة الرسائل المؤلفة في ذلك. وقصدنا هنا أن نبين دليل ذلك من القرآن.
وإنما قال هرون لأخيه: {يَبْنَؤُمَّ} لأن قرابة الأم أشد عطفًا وحنانًا من قرابة الأب. وأصله: يابنؤمي بالإضافة إلى ياء المتكلم، ويطرد حذف الياء وإبدالها ألفًا وحذف الألف المبدلة منها كما هنا، وإلى ذلك أشار في الخلاصة بقوله:
وفتحٌ أو كسرٌ وحذفُ اليا استَمَرْ
…
في يا ابن أُمَّ يا ابنَ عمَّ لا مفَرْ
وأما ثبوت ياء المتكلم في قول حرملة بن المنذر:
يا بنؤمِّي ويا شقيق نفسي
…
أنت خليتني لدهر شديد