الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأبتر لعطفه عليه في الحديث، ورواية البخاري التي قدمنا عن أبي لبابة:"لا تقتلوا الجنان إلا كل أبتر ذي طفيتين" يقتضي أنهما واحد. فالجواب: أن ابن حجر في الفتح أجاب عن هذا؛ بأن الرواية المذكورة ظاهرها اتحادهما، ولكنها لا تنفي المغايرة اهـ. والظاهر أن مراده بأنها لا تنفي المغايرة: أن الأبتر وإن كان ذا طُفْيتين فلا ينافي وجود ذي طفيتين غير الأبتر. والله تعالى أعلم.
•
قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)}
.
الظاهر أن الخطاب لبني آدم؛ أي فإن يأتكم مني هدى، أي رسول أرسله إليكم، وكتاب يأتي به رسول، فمن اتبع منكم هداي، أي من آمن برسلي وصدق بكتبي، وامتثل ما أمرتُ به، واجتنب ما نهيتُ عنه على ألسنة رسلي؛ فإنه لا يضل في الدنيا، أي لا يزيغ عن طريق الحق لاستمساكه بالعروة الوثقى، ولا يشقى في الآخرة؛ لأنه كان في الدنيا عاملًا بما يستوجب السعادة من طاعة الله تعالى وطاعة رسله. وهذا المعنى المذكور هنا ذكر في غير هذا الموضع؛ كقوله في "البقرة":{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} ونحو ذلك من الآيات. وفي هذه الآيات دليل على أن الله بعد أن أخرج أبوينا من الجنة لا يردُّ إليها أحدًا منا إلا بعد الابتلاء والامتحان بالتكاليف من الأوامر والنواهي، ثم يطيع الله فيما ابتلاه به؛ كما تقدمت الإشارة إليه في سورة "البقرة".
•
قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}
.
قد قدمنا في سورة "الكهف" في الكلام على قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} الآية. الآياتِ الموضحة نتائج الإعراض عن ذكر الله تعالى الوخيمة؛ فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقد قدمنا هناك أن منها المعيشة الضنك. واعلم أن الضنك في اللغة: الضيق؛ ومنه قول عنترة:
إن يُلحقو أكْرر وإن يُستلحموا
…
أشْدُد وإن يُلفوا بضنك أنزِلِ
وقوله أيضًا:
إن المنيةَ لو تُمَثَّل مُثِّلَتْ
…
مثلي إذا نزلوا بضَنْك المنزلِ
وأصل الضَّنْك مصدر وصف به، فيستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع. وبه تعلم أن معنى قوله:{مَعِيشَةً ضَنْكًا} أي عيشًا ضيقًا والعياذ بالله تعالى.
واختلف العلماء في المراد بهذا العيش الضيق على أقوال متقاربة، لا يكذب بعضها بعضًا. وقد قدمنا مرارًا أن الأولى في مثل ذلك شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة. ومن الأقوال في ذلك: أن معنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة، والتوكل على الله، والرضا بقسمته، فصاحبه ينفق مما رزقه الله بسماح وسهولة، فيعيش عيشًا هنيئًا. ومما يدل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية، وقوله تعالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الآية؛ كما تقدم إيضاح ذلك كله.
وأما المُعْرض عن الدين فإنه يستولي عليه الحرص الذي
لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الانفاق، فعيشه ضنك، وحاله مظلمة. ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة بسبب كفره، كما قالى تعالى:{وَضُرِبَتْ عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} الآيات. وذلك من العيش الضنك بسبب الإعراض عن ذكر الله. وبين في مواضع أخر أنهم لو تركوا الإعراض عن ذكر الله فأطاعوه تعالى: أن عيشهم يصير واسعًا رغدًا لا ضنكًا، كقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} الآية، وقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية، وكقوله تعالى عن نوح:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} ، وقوله تعالى عن هود:{وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} الآية، وقوله تعالى:{وَأَلَّو اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَينَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وعن الحسن أن المعيشة الضنك: هي طعام الضريع والزقوم يوم القيامة، وذلك مذكور في آيات من كتاب الله تعالى، كقوله:{لَيسَ لَهُمْ طَعَامٌ إلا مِنْ ضَرِيعٍ (6)} الآية، وقوله:{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)} الآية ونحو ذلك من الآيات. وعن عكرمة والضحاك ومالك بن دينار: المعيشة الضنك: الكسب الحرام، والعمل السيء. وعن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة: المعيشة الضنك: عذاب القبر وضغطته. وقد