الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الألم الظاهري الذي يسببه حر الشمس ونحوه كما هو واضح.
بما ذكرنا تعلم أن قول من قال: إن في الآية المذكورة ما يسمع قطع النظير عن النظير، وأن الغرض من قطع النظير عن النظير المزعوم تحقيق تعداد هذه النعم وتكثيرها؛ لأنه لو قرن النظير بنظيره لأوهم أن المعدودات نعمة واحدة، ولهذا قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة، مع ما بين ذلك من التناسب. وقالوا: ومن قطع النظير عن النظير المذكور قول امرئ القيس:
كأني لم أركب جوادًا للذة
…
ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
ولم أسبا الزق الروى ولم أقل
…
لخيلي كري كرة بعد إجفال
فقطع ركوب الجواد من قوله: "لخيلي كري كرة" وقطع "تبطن الكاعب" عن شرب "الزق الروي" مع التناسب في ذلك. وغرضه أن يعدد ملاذَّه ومفاخره ويكثرها = كله كلام لا حاجة له لظهور المناسبة بين المذكورات في الآية كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى.
•
قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيهِ الشَّيطَانُ قَال يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)}
.
الوسوسة والوسواس: الصوت الخفي. ويقال لهمس الصائد والكلاب، وصوت الحَلْي: وسواس. والوِسْواس بكسر الواو الأولى مصدر، وبفتحها الاسم، وهو أيضًا من أسماء الشيطان، كما في قوله تعالى:{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)} ويقال لحديث النفس: وسواس ووسوسة. ومن إطلاق الوسواس على صوت
الحَلْي قول الأعشى:
تسمعُ للحَلْي وسواسًا إذا انصرفت
…
كما استعان بريحٍ عِشرقٌ زَجِل
ومن إطلاقه على همس الصائد قول ذي الرمة:
فبات يُشْئِزُه ثأدٌ ويُسْهِره
…
تَذَؤبُ الريحِ والوسواسُ والهَضَبُ
وقول رؤبة:
وسوسَ يدعو مخلصًا ربَّ الفلق
…
سرًّا وقد أوَّنَ تأوين العُقُق
في الزرب لم يمضع شربًا ما بصق
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَوَسْوَسَ إِلَيهِ الشَّيطَانُ} أي: كلمه كلامًا خفيًّا فسمعه منه آدم وفهمه. والدليل على أن الوسوسة المذكورة في هذه الآية الكريمة كلام من إبليس سمعه آدم وفهمه أنه فسر الوسوسة في هذه الآية بأنها قول، وذلك في قوله:{فَوَسْوَسَ إِلَيهِ الشَّيطَانُ قَال يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} الآية. فالقول المذكور هو الوسوسة المذكورة. وقد أوضح هذا في سورة "الأعراف" وبين أنه وسوس إلى حواء أيضًا مع آدم، وذلك في قوله:{فَوَسْوَسَ إِلَيهِ الشَّيطَانُ -إلى قوله- وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} ؛ لأن تصريحَه تعالى في آية "الأعراف" هذه بأن إبليس قاسمهما أي حلف لهما على أنه ناصح لهما فيما ادعاه من الكذب: دليلٌ واضح على أن الوسوسة المذكورة كلام مسموع.
واعلم أن في وسوسة الشيطان إلى آدم إشكالًا معروفًا، وهو أن يقال: إبليس قد أخرج من الجنة صاغرًا مذمومًا مدحورًا، فكيف
أمكنه الرجوع إلى الجنة حتى وسوس لآدم؟ والمفسرون يذكرون في ذلك قصة الحية، وأنه دخل فيها فأدخلته الجنة، والملائكة الموكلون بها لا يشعرون بذلك. وكلُّ ذلك من الإسرائيليات. والواقع أنه لا إشكال في ذلك، لإمكان أن يقف إبليس خارج الجنة قريبًا من طرفها بحيث يسمع آدم كلامه وهو في الجنة، وإمكان أن يدخله الله إياها لامتحان آدم وزوجه، لا لكرامة إبليس. فلا محال عقلًا في شيء من ذلك. والقرآن قد جاء بأن إبليس كلم آدم، وحلف له حتى غيره وزَوْجَه بذلك.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود؛ لأن من أكل منها يكون في زعمه الكاذب خالدًا لا يموت ولا يزول، وكذلك يكون له في زعمه ملك لا يبلى أي لا يفنى ولا ينقطع. وقد قدمنا أن قوله هنا:{وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)} يدل لمعنى قراءة من قرأ (إلا أن تكونا مَلِكَين) بكسر اللام. وقوله: {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} هو معنى قوله في "طه": {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} .
والحاصل: أن إبليس لعنه الله كان من جملة ما وسوس به إلى آدم وحواء: أنهما إن أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها نالا الخلود والملك، وصارا ملكين، وحلف لهما أنه ناصح لهما في ذلك، يريد لهما الخلود والبقاء والملك فدلاهما بغرور. وفي القصة: أن آدم لما سمعه يحلف بالله اعتقد من شدة تعظيمه لله أنه لا يمكن أن يحلف به أحد على الكذب، فأنساه ذلك العهد بالنهي عن الشجرة.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: كيف عدى فعل الوسوسة في "طه" بإلى في قوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيهِ الشَّيطَانُ} مع أنه عداه في "الأعراف" باللام في قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيطَانُ} . وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة.
أحدها: أن حروف الجر يخْلُف بعضها بعضًا؛ فاللام تأتي بمعنى إلى كعكس ذلك.
قال الجوهري في صحاحه: وقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيطَانُ} يريد إليهما، ولكن العرب توصل بهذه الحروف كلها الفعل اهـ. وتبعه ابن منظور في اللسان. ومن الأجوبة عن ذلك: إرادة التضمين، قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: فإن قلت كيف عدى {فَوَسْوَسَ} تارة باللام في قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيطَانُ} وأخرى بإلى؟ قلت: وسَوْسَة الشيطان كوَلْوَلة الثكلَى، ووَعوَعة الذئب، ووَقْوَقة الدجاجة، في أنها حكايات للأصوات، وحكمها حكم صوَّت وأجْرَس؛ ومنه وسوس المبرسم وهو موسوس بالكسر والفتح لحن. وأنشد ابن الأعرابي:
وسوس يدعو مخلصا ربَّ الفلق
…
.........................
فإذا قلت: وسوس له؛ فمعناه لأجله؛ كقوله:
أجْرِس لها يا ابن أبي كباش
…
فما لها الليلة من إنفاش
غير السُّرى وسائق نجّاش
ومعنى {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ} أنهى إليه الوسوسة؛ كقوله: