الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله في هذه الآية: {وَرَحْمَةً مِنَّا} أي لمن آمن به. ومن كفر به فلم يبتغ الرحمة لنفسه، كما قال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالمِينَ} ، وقوله تعالى:{وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} أي: وكان وجود ذلك الغلام منك أمرًا مقضيًّا، أي مقدرًا في الأزل، مسطورًا في اللوح المحفوظ لابد من وقوعه، فهو واقع لا محالة.
•
.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن مريم حملت عيسى. فقوله: {فَحَمَلَتْهُ} أي: عيسى {فَانْتَبَذَتْ بِهِ} أي: تنحت به وبعدت معتزلة عن قومها {مَكَانًا قَصِيًّا (22)} أي: في مكانٍ بعيد. والجمهور على أن المكان المذكور بيت لحم. وفيه أقوال أخر غير ذلك. وقوله: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} أي: ألجأها الطلق إلى جذع النخلة، أي: جذع نخلة في ذلك المكان. والعرب تقول: جاء فلان، وأجاءه غيره: إذا حمله على المجيء، ومنه قول زهير:
وجار سار معتمدًا إلينا
…
أجاءته المخافة والرجاء
وقول حسان رضي الله عنه:
إذ شددنا شدة صادقة
…
فأجأناكم إلى سفح الجبل
والمخاض: الطلق، وهو وجع الولادة، وسمى مخاضًا من المخض، وهو الحركة الشديدة لشدة تحرك الجنين في بطنها إذا أراد الخروج.
وقوله: {قَالتْ يَاليتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) } تمنت أن تكون قد ماتت قبل ذلك ولم تكن شيئًا يذكر. فإذا عرفت معنى هاتين الآيتين، فاعلم أنه هنا لم يبين كيفية حملها به، ولم يبين هل هذا الذي تنحت عنهم من أجله، وتمنت من أجله أن تكون ماتت قبل ذلك، وكانت نسيًا منسيًّا، وهو خوفها من أن يتهموها بالزنى، وأنها جاءت بذلك الغلام من زنى وقعت فيه أو سلمت منه. ولكنه تعالى بين كل ذلك في غير هذا الموضع، فأشار إلى أن كيفية حملها أنه نفخ فيها فوصل النفخ إلى فرجها فوقع الحمل بسبب ذلك، كما قال:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} وقال: {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا .. } الآية. والذي عليه الجمهور من العلماء: أن المراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله:{إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) } كما تقدم. ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله: {فَنَفَخْنَا} ؛ لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ؛ فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ بل من
(1)
أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمره تعالى، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل منه إلا بمشيئته جل وعلا -أسنده إلى نفسه- والله تعالى أعلم.
وقول من قال: إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب
(1)
المطبوعة: "وهن".
درعها؛ ظاهر السقوط، بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل.
وقد بين تعالى في مواضع أخر، أن ذلك الذي خافت منه وهو قذفهم لها بالفاحشة؛ قد وقعت فيه، ولكن الله برأها، وذلك كقوله عنهم:{قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيئًا فَرِيًّا (27)} يعنون الفاحشة، وقوله عنهم:{يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} يعنون فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد؟ وكقوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)} .
وقوله: {مَكَانًا قَصِيًّا} القصي: البعيد، ومنه قول الراجز:
لتقعدن مقعد القصيّ
…
مني ذي القاذورة المقليّ
أو تحلفي بربك العلي
…
أني أبو ذيالك الصبيّ
وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَينَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)} ؛ وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَانْتَبَذَتْ بِهِ} أي: انتبذت وهو في بطنها. والإشارة في قوله: (هذا) إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع.
وقوله في هذه الآية الكريمة عنها: {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} النَّسْي والنِّسْي -بالكسر والفتح-: هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته؛ كخرق الحيض، وكالوتد والعصا، ونحو ذلك. ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم:"انظروا أنساءكم" جمع نَسْي، أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا
والوتد؛ ونحو ذلك. فقولها: {وَكُنْتُ نَسْيًا} أي شيئًا تافهًا حقيرًا من حقه أن يترك وينسى عادة. وقولها: {مَنْسِيًّا (23)} تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك ويُنسى قد نُسِي وطُرِح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه. وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت:
أتجعلنا جسرًا لكلب قضاعة
…
ولست بنسي في معدٍّ ولا دَخْل
فقوله "بنسي" أي شيء تافه منسي، وقول الشنفرى:
كان لها في الأرض نسيًا تقصّه
…
على أمها وإن تُحَدْثك تَبْلَت
فقوله: "نسيًا" أي شيء تركته ونسيته، وقوله:"تبلت" بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث. أي تقطع كلامها من الحياء. والبلت في اللغة: القطع. وقرأ نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي {يَاليتَنِي مِتُّ} بكسر الميم. وقرأ الباقون (مُتُّ) بضم الميم. وقرأ حفص عن عاصم وحمزة: {وَكُنْتُ نَسْيًا} بفتح النون. والباقون بكسرها، وهما لغتان فصيحتان، وقراءتان صحيحتان.
تنبيه
قراءة (مِتُّ) بكسر الميم كثيرًا ما يخفى على طلبة العلم وجهها؛ لأن لغة "مات يموت" لا يصح منها "مِتّ" بكسر الميم. ووجه القراءة بكسر الميم أنه من "مات يمات"، كخاف يخاف؛ لا من "مات يموت"؛ كقال يقول. فلفظ "مات" فيها لغتان عربيتان فصيحتان؛ الأولى منهما:"مَوَت" بفتح الواو فأبدلت الواو ألفًا على
القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة:
من ياءٍ أو واو بتحريكٍ أَصُل
…
ألفًا أبدل بعد فتحٍ مُتَّصل
إن حُرِّك التالي ........
…
.................... إلخ
ومضارع هذه المفتوحة "يموت" بالضم على القياس، وفي هذه ونحوها إن أسند الفعل إلى تاء الفاعل أو نونه سقطت العين بالاعتلال وحُرِّكت الفاء بحركة تناسب العين، والحركة المناسبة للواو هي الضمة، فتقول "مُت" بضم الميم، ولا يجوز غير ذلك.
الثانية أنها "مَوِت" بكسر الواو، أبدلت الواو ألفًا للقاعدة المذكورة آنفًا. ومضارع هذه "يمات" بالفتح؛ لأن "فَعِل" بكسر العين ينقاس في مضارعها "يَفْعَل" بفتح العين، كما قال ابن مالك في اللامية:
• وافتح موضع الكسر في المبنيِّ من فَعِلا*
ويستثنى من هذه القاعدة كلمات معروفة سماعية تحفظ ولا يقاس عليها. والمقرر في فن الصرف: أن كل فعل ثلاثي أجوف -أعني معتل العين- إذا كان على وزن "فَعِل" بكسر العين، أو "فَعُل" بضمها فإنه إذا أسند إلى تاء الفاعل أو نونه تسقط عينه بالاعتلال وتنقل حركة عينه الساقطة بالاعتلال إلى الفاء فتكسر فاؤه إن كان من "فَعِل" بكسر العين، وتضم إن كان من "فَعُل" بضمها. مثال الأول:"مِتّ" من مات يمات؛ لأن أصلها "مَوت" بالكسر وكذلك خاف يخاف، ونام ينام، فإنك تقول فيها:"مِت" بكسر الميم، و"نمت" بكسر النون، "وخفت" بكسر الخاء؛ لأن حركة
العين نقلت إلى الفاء وهي الكسرة، ومثاله في الضم "طال" فأصلها "طول" بضم الواو فتقول فيها "طلت" بالضم لنقل حركة العين إلى الفاء. أما إذا كان الثلاثي من "فَعَل" بفتح العين كمات يموت، وقال يقول، فإن العين تسقط بالاعتلال وتحرك الفاء بحركة مناسبة للعين الساقطة فيُضم الفاء إن كانت العين الساقطة واوًا كمات يموت، وقال يقول، فتقول: مُت وقُلت -بالضم- وتكسر الفاء إن كانت العين الساقطة ياء، كباع وسار، فتقول: بِعت وسِرت -بالكسر فيهما- وإلى هذا أشار ابن مالك في اللامية بقوله:
وانقل لفاء الثلاثيِّ شكل عينٍ إذا اعْـ
…
ـتلَّت وكان بتا الإضمار متصلا
أو نوْنِه وإذا فتحًا يكون فمنـ
…
ـه اعتض مجانسَ تلك العين منتقِلا
واعلم أن "مات يمات"، من "فَعِل" -بالكسر- يَفْعَل -بالفتح- لغة فصيحة. ومنها قول الراجز:
بنيتي سيدة البنات
…
عيشي ولا نأمن أن تما
وأما "مات يميت" فهي لغة ضعيفة. وقد أشار إلى اللغات الثلاث الفصيحتين والردية بعض أدباء قُطر شنقيط في بيت رجز هو قوله:
مِن مَنَعَت زوجتُه منه المبيت
…
مات يموت ويمات ويميت
وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع لم نذكرها، لعدم دليل على شيء منها. وأظهرها: أنه حمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقًا للعادة، والله تعالى أعلم.