الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها معه صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على حفظ القرآن؛ فأرشده الله في هذه الآية إلى ما ينبغي. فنهاه عن العجلة بقراءة القرآن مع جبريل، بل أمره أن ينصت لقراءة جبريل حتى ينتهي، ثم يقرؤه هو بعد ذلك، فإن الله ييسر له حفظه. وهذا المعنى المشار إليه في هذه الآية أوضحه الله في غير هذا الموضع؛ كقوله في "القيامة":{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَينَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيَانَهُ (19)} . وقال البخاري في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة قال: حدثنا موسى بن أبي عائشة قال: حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما. وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه؛ فأنزل الله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَينَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} قال: جمعه لك في صدرك، ونقرأه:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} قال: فاستمع له وأنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيَانَهُ (19)} ثم علينا أن نقرأه. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع؛ فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه. اهـ
•
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)}
.
قوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} أي أوصيناه ألا يقرب تلك الشجرة. وهذا العهد إلى آدم الذي أجمله هنا بينه في غير هذا
الموضع، كقوله في سورة "البقرة":{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} فقوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} هو عهده إلى آدم المذكور هنا. وقوله في "الأعراف": {وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)} .
وقوله تعالى: {فَنسِيَ} فيه للعلماء وجهان معروفان:
أحدهما: أن المراد بالنسيان الترك، فلا ينافي كون الترك عمدًا. والعرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدًا، ومنه قوله تعالى:{قَال كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} فالمراد في هذه الآية: الترك قصدًا. وكقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)} ، وقوله تعالى:{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)} ، وقوله تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} ، وقوله تعالى:{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)} : وعلى هذا فمعنى قوله: {فَنسَى} أي ترك الوفاء بالعهد، وخالف ما أمره الله به من ترك الأكل من تلك الشجرة؛ لأن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده.
والوجه الثاني: هو أن المراد بالنسيان في الآية: النسيان الذي هو ضد الذكر؛ لأن إبليس لما أقسم له بالله أنه له ناصح فيما دعاه إليه من الأكل من الشجرة التي نهاه ربه عنها. غيره وخدعه بذلك، حتى أنساه العهد المذكور؛ كما يشير إليه قوله تعالى:
{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سمى الإنسان لأنه عهد إليه فنسى. رواه عنه ابن أبي حاتم اهـ. ولقد قال بعض الشعراء:
وما سُمِّي الإنسان إلا لنسيه
…
ولا القلب إلا أنه يتقلَّب
أما على القول الأول فلا إشكال في قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} ، وأما على الثاني ففيه إشكال معروف؛ لأن الناسي معذور فكيف يقال فيه:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} . وأظهر أوجه الجواب عندي عن ذلك: أن آدم لم يكن معذورًا بالنسيان، وقد بينت في كتابي (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) الأدلة الدالة على أن العذر بالنسيان والخطإ والإكراه من خصائص هذه الأمة، كقوله هنا:{فَنسَى} مع قوله: {وَعَصَى} فأسند إليه النسيان والعصيان؛ فدل على أنه غير معذور بالنسيان. ومما يدل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله: "نعم قد فعلت". فلو كان ذلك معفوًا عن جميع الأمم لما كان لذكره على سبيل الامتنان وتعظيم المنة عظيم موقع. ويستأنس لذلك بقوله: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ويؤيد ذلك حديث: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". فقوله: "تجاوز لي عن أمتي" يدل على الاختصاص بأمته، وليس مفهوم لقب؛ لأن مناط التجاوز عن ذلك هو ما خصه الله به من التفضيل على غيره من الرسل. والحديث المذكور وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فله شواهد ثابتة في الكتاب والسنة. ولم يزل علماء الأمة قديمًا وحديثًا يتلقونه بالقبول. ومن الأدلة على ذلك
حديث طارق ابن شهاب المشهور في الذي دخل النار في ذبابٍ قرَّبه مع أنه مكره وصاحبه الذي امتنع من تقريب شيء للصنم ولو ذبابًا قتلوه. فدل ذلك على أن الذي قربه مكره؛ لأنه لو لم يقرب لقتلوه كما قتلوا صاحبه، ومع هذا دخل النار فلم يكن إكراهه عذرًا. ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى عن أصحاب الكهف:{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)} فقوله: {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} دليل على الإكراه. وقوله: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)} دليل على عدم العذر بذلك الإكراه؛ كما أوضحنا ذلك في غير هذا الموضع.
واعلم أن في شرعنا ما يدل على نوع من التكليف بذلك في الجملة، كقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} الآية. فتحرير الرقبة هنا كفارة لذلك القتل خطأ. والكفارة تشعر بوجود الذنب في الجملة؛ كما يشير إلى ذلك قوله في كفارة القتل خطأ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)} فجعل صوم الشهرين بدلًا من العتق عند العجز عنه. وقوله بعد ذلك: {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} يدل على أن هناك مؤاخذة في الجملة بذلك الخطإ، مع قوله:{وَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وما قدمنا من حديث مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله: "نعم قد فعلت"، فالمؤاخذة التي هي الإثم مرفوعة، والكفارة المذكورة قال بعض أهل العلم: هي بسبب التقصير في التحفظ والحذر من وقوع الخطإ والنسيان، والله جل وعلا أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)}
هو ونحوه من الآيات مستند من قال من أهل الأصول بعدم عصمة الأنبياء من الصغائر التي لا تتعلق بالتبليغ؛ لأنهم يتداركونها بالتوبة والإنابة إلى الله حتى تصير كأنها لم تكن.
واعلم أن جميع العلماء أجمعوا على عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في كل ما يتعلق بالتبليغ. واختلفوا في عصمتهم من الصغائر التي لا تعلق لها بالتبليغ اختلافًا مشهورًا معروفًا في الأصول. ولا شك أنهم صلوات الله عليهم وسلامه إن وقع منهم بعض الشيء فإنهم يتداركونه بصدق الإنابة إلى الله حتى يبلغوا بذلك درجة أعلا من درجة من لم يقع منه ذلك؛ كما قال هنا: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} ثم أتبع ذلك بقوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيهِ وَهَدَى (122)} .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} ، يدل على أن أبانا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس من الرسل الذين قال الله فيهم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم جميع الرسل. وعن ابن عباس وقتادة {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} أي لم نجد له صبرًا عن أكل الشجرة ومواظبة على التزامِ الأمر. وأقوال العلماء راجعة إلى هذا، والوجود في قوله:{وَلَمْ نَجِدْ} قال أبو حيان في البحر: يجوز أن يكون بمعنى العلم، ومفعولاه {لَهُ عَزْمًا (115)} وأن يكون نقيض العدم؛ كأنه قال: وعدمنا له عزمًا. اهـ منه. والأول أظهر، والله تعالى أعلم.
• قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا