الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} كما تقدم إيضاحه.
وقوله في هذه الآية: {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي ما قدم من أعمال الكفر. ونسبة التقديم إلى خصوص اليد؛ لأن اليد أكثر مزاولة للأعمال من غيرها من الأعضاء، فنسبت الأعمال إليها على عادة العرب في كلامهم، وإن كانت الأعمال التي قدمها منها ما ليس باليد كالكفر باللسان والقلب، وغير ذلك من الأعمال التي لا تزاول باليد كالزنى.
وقد بينا في كتابنا (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب) وجه الجمع بين قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ
…
} الآية، وقوله:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ونحو ذلك من الآيات. وأشهر أوجه الجمع في ذلك وجهان: أحدهما: أن كل من قال الله فيه: ومن أظلم ممن فعل كذا، لا أحد أظلم من واحد منهم. وإذا فهم متساوون في الظلم لا يفوق بعضهم فيه بعضًا، فلا إشكال في كون كل واحد منهم لا أحد أظلم منه. والثاني: أن صلة الموصول تعيِّنُ كل واحد في محله، وعليه فالمعنى في قوله:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} . لا أحد أظلم ممن ذُكِّر فأعرض أظلم ممن ذُكِّر بآيات ربه فأعرض عنها. وفي قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ، لا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبًا، وهكذا. والأول أولى؛ لأنه جار على ظاهر القرآن ولا إشكال فيه. وممن اختاره أبو حيان في البحر.
•
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}
.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل على قلوب الظالمين المعرضين عن آيات الله إذا ذكروا بها أكِنَّة، أي: أغطية تغطي قلوبهم فتمنعها من إدراك ما ينفعهم مما ذُكِّروا به. وواحد الأكنة: كِنَان، وهو الغطاء. وأنه جعل في آذانهم وقرًا، أي: ثقلًا يمنعها من سماع ما ينفعهم من الآيات التي ذكروا بها. وهذا المعنى أوضحه الله تعالى في آيات أخر؛ كقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} ، وقوله: {أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً
…
} الآية، وقوله تعالى:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَينَكَ وَبَينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)} ، وقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} ، وقوله:{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)} والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًّا.
فإن قيل: إذا كانوا لا يستطيعون السمع ولا يبصرون ولا يفقهون؛ لأن الله جعل الأكنة المانعة من الفهم على قلوبهم. والوَقْر الذي هو الثقل المانع من السمع في آذانهم فهم مجبورون. فما وجه تعذيبهم على شيء لا يستطيعون العدول عنه والانصراف إلى غيره؟!.
فالجواب: أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة من كتابه العظيم؛ أن تلك الموانع التي يجعلها على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، كالختم والطبع والغشاوة والأكنة، ونحو ذلك؛ إنما جعلها عليهم جزاء وفاقًا لما بادروا إليه من الكفر وتكذيب الرسل
باختيارهم، فأزاغ الله قلوبهم بالطبع والأكنة ونحو ذلك، جزاء على كفرهم، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيهَا بِكُفْرِهِمْ} أي بسبب كفرهم، وهو نص قرآني صريح في أن كفرهم السابق هو سبب للطبع على قلوبهم. وقوله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وهو دليل أيضًا واضح على أن سبب إزاغة الله قلوبهم وهو زيغهم السابق. وقوله. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ
…
}، وقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا
…
} الآية، وقوله:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} ، وقوله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الطبع على القلوب ومنعها من فهم ما ينفع عِقابٌ من الله على الكفر السابق على ذلك.
وهذا الذي ذكرنا هو وجه رد شبهة الجبرية التي يتمسكون بها في هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم. وبهذا الذي قررنا يحصل الجواب أيضًا عن سؤال يظهر لطالب العلم فيما قررنا؛ وهو أن يقول: قد بينتم في الكلام على الآية التي قبل هذه أن جعل الأكنة على القلوب من نتائج الإعراض عن آيات الله عند التذكير بها، مع أن ظاهر الآية يدل على عكس ذلك من أن الإعراض المذكور سببه هو جعل الأكنة على القلوب؛ لأن "إن" من حروف التعليل كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، كقولك: اقطعه إنه سارق، وعاقبه إنه ظالم، فالمعنى: اقطعه لعلة سرقته، وعاقبه لعلة ظلمه. وكذلك قوله تعالى:{ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أي أعرض عنها لعلة
جعل الأكنة على قلوبهم؛ لأن الآيات الماضية دلت على أن الطبع الذي يعبر عنه تارة بالطبع، وتارة بالختم، وتارة بالأكنة، ونحو ذلك؛ سببه الأول الإعراض عن آيات الله والكفر بها كما تقدم إيضاحه.
وفي هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان: الأول: أن يقال: ما مفسر الضمير في قوله: {أَنْ يَفْقَهُوهُ} وقد قدمنا أنه الآيات في قوله: {ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} بتضمين الآيات معنى القرآن. فقوله: {أَنْ يَفْقَهُوهُ} أي: القرآن المعبر عنه بالآيات كما تقدم إيضاحه قريبًا.
السؤال الثاني: أن يقال: ما وجه إفراد الضمير في قوله: {ذُكِّرَ} ، وقوله:{فَأَعْرَضَ عَنْهَا} ، وقوله:{وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} مع الإتيان بصيغة الجمع في الضمير في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} مع أن مفسر جميع الضمائر المذكورة واحد، وهو الاسم الموصول في قوله:{مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ .. } الآية.
والجواب: هو أن الإفراد باعتبار لفظ "من" والجمع باعتبار معناها؛ وهو كثير في القرآن العظيم. والتحقيق في مثل ذلك جواز مراعاة اللفظ تارة، ومراعاة المعنى تارة أخرى مطلقًا؛ خلافًا لمن زعم أن مراعاة اللفظ بعد مراعاة المعنى لا تصح؛ والدليل على صحته قوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} فإنه في هذه الآية الكريمة راعى لفظ {وَمَن} أولًا فأفرد الضمير في قوله: {يُؤْمِن} ، وقوله:{وَيَعْمَلْ} ، وقوله:{يُدْخِلْهُ} ، وراعى المعنى في قوله:{خَالِدِينَ}