الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجوب الجمع بين الأدلة المذكورة، وأن علو الإمام مكروه لما تقدم. ويجمع بينه وبين قصة الصلاة على المنبر بجوازه للتعليم دون غيره. ويدل لهذا إخباره صلى الله عليه وسلم أنه ارتفع على المنبر ليعلمهم الصلاة؛ لأنه إذا ارتفع رأوه وإذا نزل لم يره إلا من يليه، وجمع بعضهم بأن ارتفاعه على المنبر ارتفاع يسير وهو مغتفر. أما علو المأموم فقد تعارض فيه القياس مع فعل أبي هريرة؛ لأن القياس يقتضي كراهة ارتفاع المأموم قياسًا على ارتفاع الإمام وهو قياس جلي، وإذا تعارض القياس مع قول الصحابي فمن الأصوليين من يقول بتقديم القياس، وهو مذهب مالك وجماعة، ومنهم من يقول بتقديم قول الصحابي. ولا شك أن الأحوط تجنب علو كل واحد من الإمام والمأموم على الآخر. والعلم عند الله تعالى.
و {أَنْ} في قوله: {فَأَوْحَى إِلَيهِمْ أَنْ سَبِّحُوا} هي المفسرة. والمعنى أن ما بعدها يفسر الإيحاء المذكور قبلها. فهذا الذي أشار لهم به هو الأمر بالتسبيح بكرة وعشيًّا، وهذا هو الصواب. ويحتمل أن تكون مصدرية بناء على أن "أن" المصدرية تأتي مع الأفعال الطلبية؛ وعليه فالمعنى: أوحى إليهم، أي أشار إليهم بأن سبحوا، أي بالتسبيح أو كتب لهم ذلك بناء على القول بأن المراد به الكتابة، وكونها مفسرة هو الصواب. والعلم عند الله تعالى.
•
.
اعلم أولًا: أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من
أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر شيء مع بعض صفاته وله صفات أخر مذكورة في موضع آخر، فإنا نبينها، وقد مر فيه أمثلة كثيرة من ذلك، وأكثرها في الموصوفات من أسماء الأجناس لا الأعلام، وربما ذكرنا ذلك في صفات الأعلام كما هنا. فإذا علمت ذلك؛ فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة بعض صفات يحيى، وقد ذكر شيئًا من صفاته أيضًا في غير هذا الموضع. وسنبين إن شاء الله المراد بالمذكور منها هنا، والمذكور في غير هذا الموضع.
اعلم أنه هنا وصفه بأنه قال له: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} ووصفه بقوله: {وَآتَينَاهُ الْحُكْمَ -إلى قوله- وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} ، فقوله:{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} مقول قول محذوف؛ أي وقلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوة. والكتاب: التوراة؛ أي خذ التوراة بقوة؛ أي: بجدٍّ واجتهاد، وذلك بتفهُّم المعنى أولًا حتى يفهمه على الوجه الصحيح، ثم يعمل به من جميع الجهات، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويتأدب بآدابه، ويتعظ بمواعظه، إلى غير ذلك من جهات العمل به. وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا: التوراة. وحكى غير واحد عليه الإجماع. وقيل: هو كتاب أنزل على يحيى، وقيل: هو اسم جنس يشمل الكتب المتقدمة. وقيل: هو صحف إبراهيم. والأظهر قول الجمهور: إنه التوراة كما قدمنا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَآتَينَاهُ الْحُكْمَ} أي أعطيناه الحكم، وللعلماء في المراد بالحكم أقوال متقاربة، مرجعها إلى شيء واحد، وهو أن الله أعطاه الفهم في الكتاب؛ أي إدراك
ما فيه والعمل به في حال كونه صبيًّا. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: {وَآتَينَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)} أي الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير والإكباب عليه، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث. قال عبد الله بن المبارك قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا! فلهذا أنزل الله {وَآتَينَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)} . وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: {وَآتَينَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)} يقول تعالى ذكره: وأعطيناه الفهم بكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال. وقد حدثنا أحمد بن منيع قال: حدثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرني معمر ولم يذكره عن أحد في هذه الآية {وَآتَينَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)} قال: بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب. فقال: ما للعب خلقنا، فأنزل الله {وَآتَينَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)}. وقال الزمخشري في الكشاف:{وَآتَينَاهُ الْحُكْمَ} أي الحكمة، ومنه قول نابغة ذبيان:
احكُم كحكم فتاةِ الحيِّ إذ نظرت
…
إلى حمامٍ شِراعٍ واردِ الثَّمَدِ
وقال أبو حيان في البحر في تفسير هذه الآية: والحكم النبوة، أو حكم الكتاب، أو الحكمة، أو العلم بالأحكام. أو اللب وهو العقل، أو آداب الخدمة، أو الفراسة الصادقة. أقوال.
قال مقيده -عفا الله عنه وغفر له-: الذي يظهر لي: هو أن الحكم العلم النافع والعمل به، وذلك بفهم الكتاب السماوي فهمًا صحيحًا، والعمل به حقًّا، فإن هذا يشمل جميع أقوال العلماء في الآية الكريمة. وأصل معنى {الْحُكْمَ} المنع، والعلم النافع والعمل
به يمنع الأقوال والأفعال من الخلل والفساد والنقصان.
وقوله تعالى: {صَبِيًّا (12)} أي لم يبلغ، وهو الظاهر. وقيل: صبيًّا أي: شابًّا لم يبلغ سن الكهولة؛ ذكره أبو حيان وغيره، والظاهر الأول. قيل ابن ثلاث سنين، وقيل ابن سبع، وقيل ابن سنتين. والله أعلم.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَحَنَانًا} معطوف على {الْحُكْمَ} أي: وآتيناه حنانًا من لدنا. والحنان: هو ما جبل عليه من الرحمة، والعطف والشفقة. وإطلاق الحنان على الرحمة والعطف مشهور في كلام العرب، ومنه قولهم: حنانك وحنانيك يارب، بمعنى رحمتك. ومن هذا المعنى قول امرئ القيس:
أبنت الحارث الملك بن عمرو
…
له ملك العراق إلى عمان
ويمنحُها بنو شَمَجَى بن جَرْم
…
مَعِيزَهم حنانك ذا الحنان
يعني رحمتك يا رحمن؛ وقول طرفة بن العبد:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
…
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقول منذر بن درهم الكلبي:
وأحدث عهد من أمينة نظرة
…
على جانب العلياء إذ أنا واقف
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا
…
أذو نسب أم أنت بالحي عارف
فقوله "حنان" أي: أمري حنان؛ أي رحمة لك وعطف وشفقة عليك، وقول الحطيئة أو غيره:
تحنَّنْ عليَّ هداك المليك
…
فإن لكل مقام مقالا
وقوله تعالى: {مِنْ لَدُنَّا} أي من عندنا. وأصح التفسيرات في قوله: {وَزَكَاةً} أنه معطوف على ما قبله، أي: أو أعطيناه زكاة، أي طهارة من أدران الذنوب والمعاصي بالطاعة، والتقرب إلى الله بما يرضيه. وقد قدمنا في سورة "الكهف" الآيات الدالة على إطلاق الزكاة في القرآن بمعنى الطهارة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية:{وَزَكَاةً} الزكاة: التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير؛ أي جعلناه مباركًا للناس يهديهم. وقيل المعنى: زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكي الشهود إنسانًا. وقيل: "زكاة" صدقة على أبويه؛ قاله ابن قتيبة. انتهى كلام القرطبي. وهو خلاف التحقيق في معنى الآية. والتحقيق فيه إن شاء الله هو ما ذكرنا من أن المعنى: وأعطيناه زكاة أي طهارة من الذنوب والمعاصي بتوفيقنا إياه للعمل بما يرضي الله تعالى. وقول من قال من العلماء: بأن المراد بالزكاة في الآية العمل الصالح، راجع إلى ما ذكرنا؛ لأن العمل الصالح هو الذي به الطهارة من الذنوب والمعاصي.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَكَانَ تَقِيًّا (13)} أي: ممتثلًا لأوامر ربه مجتنبًا كل ما نهى عنه؛ ولذا لم يعمل خطيئة قط، ولم يلم بها، قاله القرطبي وغيره عن قتادة وغيره. وفي نحو ذلك أحاديث مرفوعة، والظاهر أنه لم يثبت شيء من ذلك مرفوعًا، إما بانقطاع، وإما بعنعنة مدلس: وإما بضعف راو، كما أشار له ابن كثير وغيره. وقد قدمنا معنى التقوى مرارًا وأصل مادتها في اللغة العربية.
وقوله تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيهِ} البَرَّ بالفتح هو فاعل البر -بالكسر-
كثيرًا، أي: وجعلناه كثير البر بوالديه، أي محسنًا إليهما، لطيفًا بهما، لين الجانب لهما. وقوله:{وَبَرًّا} معطوف على قوله: {تَقِيًّا (13)} ، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)} أي لم يكن مستكبرًا عن طاعة ربه وطاعة والديه، ولكنه كان مطيعًا لله، متواضعًا لوالديه، قاله ابن جرير. والجبار: هو كثير الجبر، أي القهر للناس، والظلم لهم. وكل متكبر على الناس يظلمهم، فهو جبار. وقد أطلق في القرآن على شديد البطش في قوله تعالى:{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)} وعلى من يتكرر منه القتل في قوله: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} الآية. والظاهر أن قوله: {عَصِيًّا (14)} فعول قلبت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء على القاعدة التصريفية المشهورة؛ التي عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله:
إن يسكنِ السابقُ من واوٍ ويا
…
واتَّصلا ومن عُرُوضٍ عَرِيا
فياءً الواوَ اقلبنَّ مُدْغمًا
…
وشذَّ مُعْطًى غيرَ ما قد رُسِما
فأصل {عَصِيًّا (14)} على هذا "عصويًا" كصبور، أي كثير العصيان. ويحتمل أن يكون أصله فعيلًا وهي من صيغ المبالغة أيضًا، قاله أبو حيان في البحر.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَسَلَامٌ عَلَيهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} قال ابن جرير: وسلام عليه، أي: أمان له. وقال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف من الأمان؛ لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحيَّاه في المواطن
التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة، وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول. انتهى كلام ابن عطية بواسطة نقل القرطبي في تفسير هذه الآية. ومرجع القولين إلى شيء واحد؛ لأن معنى سلام التحية، الأمانُ والسلامة مما يكره. وقول من قال: هو الأمان، يعني أن ذلك الأمان من الله. والتحية من الله معناها الأمان والسلامة مما يكره. والظاهر المتبادر أن قوله:{وَسَلَامٌ عَلَيهِ يَوْمَ وُلِدَ} تحية من الله ليحيى ومعناه الأمان والسلامة. وقوله: {وَسَلَامٌ عَلَيهِ} مبتدأ، وسوغ الابتداء به وهو نكرة أنه في معنى الدعاء، وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة بالسلام التي هي وقت ولادته، ووقت موته، ووقت بعثه، في قوله:{يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ .. } الآية، لأنها أوحش من غيرها. قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجًا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يُبْعَث فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فيها. رواه عنه ابن جرير وغيره. وذكر ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية بإسناده عن الحسن رحمه الله قال: إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني. فقال الآخر: استغفر لي، أنت خير مني. فقال عيسى: أنت خير مني، سلَّمْتُ على نفسي وسلَّمَ الله عليك. وقد نقل القرطبي هذا الكلام الذي رواه ابن جرير عن الحسن البصري رحمه الله تعالى. ثم قال: انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى بأن قال: إدلاله في التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة
من أن يُسَلّم عليه، قال ابن عطية: ولكل وجه. انتهى كلام القرطبي. والظاهر أن سلام الله على يحيى في قوله: {وَسَلَامٌ عَلَيهِ يَوْمَ وُلِدَ} الآية أعظم من سلام عيسى على نفسه في قوله: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} كما هو ظاهر.
تنبيه
الفتحة في قوله: { يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} يحتمل أن تكون في الظروف الثلاثة فتحة إعراب نصبًا على الظرفية. ويحتمل أن تكون فتحة بناء لجواز البناء في نحو ذلك، والأجود أن تكون فتحة {يَوْمَ وُلِدَ} فتحة بناء، وفتحة {وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ} فتحة نصب؛ لأن بناءَ ما قبل الفعل الماضي أجودُ من إعرابه، وإعرابَ ما قبل المضارعِ والجملةِ الاسمية أجودُ من بنائه، كما عقده في الخلاصة بقوله:
وابنِ أو اعْرِب ما كإذْ قد أُجْرِيا
…
واخترْ بنا متلُوّ فِعْلٍ بُنِيا
وقَبْلَ فِعْلٍ معربٍ أو مُبْتدا
…
أعْرِب ومَنْ بنى فَلَن يُفَنَّدا
والأحوال في مثل هذا أربعة:
الأول: أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء أصليًّا وهو الماضي، كقول نابغة ذبيان:
على حين عاتبت المشيب على الصِّبا
…
فقلت ألمَّا أَصْحُ والشيبُ وازع
فبناء الظرف في مثل ذلك أجود، وإعرابه جائز.
الثاني: أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني
بناء عارضًا، كالمضارع المبني لاتصاله بنون النسوة؛ كقول الآخر:
لأجتذِبَنْ منهنَّ قلبي تحلُّما
…
على حين يستصبين كلَّ حليمِ
وحكم هذا كما قبله.
الثالث: أن يضاف إلى جملة فعلية فعلها معرب؛ كقول أبي صخر الهذلي:
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني
…
نسيم الصبا من حيث يطَّلِع الفجر
فإعراب مثل هذا أجود، وبناؤه جائز.
الرابع: أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة اسمية؛ كقول الشاعر:
ألم تعلمي يا عمرك الله أنني
…
كريم على حين الكرام قليل
وقول الآخر:
تذكر ما تذكر من سليمى
…
على حين التواصل غير دان
وحكم هذا كما قبله. واعلم أن هذه الأوجه إنما هي في الظرف المبهم الماضي. وأما إن كان الظرف المبهم مستقبل المعنى، كقوله:{وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ} فإنه لا يضاف إلا إلى الجمل الفعلية دون الاسمية؛ فتكون فيه الأوجه الثلاثة المذكورة دون الرابع. وأجاز ابن مالك إضافته إلى الجملة الاسمية بقلة، كقوله تعالى:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)} . وقول سواد بن قارب:
وكن لي شفيعًا يوم لا ذو شفاعة
…
بمغْنٍ فتيلًا عن سوادِ بن قارب
لأن الظرف في الآية والبيت المذكورين مستقبل لا ماض. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} قال أبو حيان: فيه تنبيه على كونه من الشهداء، لقوله تعالى فيهم:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} .
قال مقيده -عفا الله عنه-: وجه هذا الاستنباط أن الحال قيد لعاملها، وصف لصاحبها. وعليه فبعثه مقيد بكونه حيًّا، وتلك حياة الشهداء، وليس بظاهر كل الظهور. والله تعالى أعلم.
هذا هو حاصل ما ذكره الله تعالى في هذه السورة الكريمة من صفات يحيى، وذكر بعض صفاته في غير هذا الموضع، كقوله في "آل عمران":{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)} ومعنى كونه: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} أنه مصدق بعيسى، وإنما قيل لعيسى: كلمة؛ لأن الله أوجده بكلمة هي قوله: {كُنْ} فكان، كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} الآية. وقال: {إِذْ قَالتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} الآية. وهذا هو قول جمهور المفسرين في معنى قوله تعالى: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} وقيل: المراد بـ"كلمة" الكتاب، أي: مصدقًا بكتاب الله. والكلمة في القرآن تطلق على الكلام المفيد، كقوله:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} ، وقوله:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} ، وقوله:{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} إلى غير ذلك من الآيات، وباقي الأقوال تركناه لظهور ضعفه. والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا. وقوله:{وَسَيِّدًا} وزن السيد بالميزان الصرفي "فيعل" وأصل مادته (س و د) سكنت ياء الفيعل الزائدة قبل الواو
التي هي في موضع العين، فأبدلت الواو ياء عن القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة:
• إن يسكن السابق من واو ويا*
البيتين المتقدمين آنفًا. وأصله من السواد وهو الخلق الكثير. فالسيد من يطيعه، ويتبعه سواد كثير من الناس. والدليل على أن عين المادة واو أنك تقول فيه: ساد يسود بالواو، وتقول: سودوه إذا جعلوه سيدًا. والتضعيف يردّ العين إلى أصلها، ومنه قول عامر بن الطفيل العامري:
وإني وإن كنت ابن سيد عامر
…
وفارسها المشهور في كل موكب
فما سوَّدتني عامرٌ عن وراثة
…
أبي الله أن أسمو بأم ولا أب
وقال الآخر:
وإن بقوم سودوك لحاجة
…
إلى سيد لو يظفرون بسيد
وشهرة مثل ذلك تكفي عن بيانه. والآية فيها دليل على إطلاق السيد على من ساد من الناس، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن بن علي رضي الله عنهما:"إن ابني هذا سيد" الحديث. وأنه صلى الله عليه وسلم: لما جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه للحكم في بني قريظة قال صلى الله عليه وسلم: "قوموا لسيدكم".
والتحقيق في معنى قوله: {وَحَصُورًا} أنه الذي حصر نفسه عن النساء مع القدرة على إتيانهن تبتلًا منه، وانقطاعًا لعبادة الله. وكان ذلك جائزًا في شرعه. وأما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهي التزوج وعدم