الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أرانا موضعين لأمر غيب
…
ونُسْحَر بالطعام وبالشراب
أي: نغذى ونعلل.
وإذا علمت أن أقوال العلماء في قوله: {مَسْحُورًا (47)} راجعة إلى دعواهم اختلال عقله بالسحر أو الخديعة، أو كونه بشرًا؛ علمت أنه لا دليل في الآية على منع بعض التأثيرات العرضية التي لا تعلق لها بالتبليغ والتشريع كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
وقد أشرنا فيما تقدم لحكم ساحر أهل الذمة، واختلاف العلماء في قتله، واستدلال من قال بأنه لا يقتل بعدم قتله صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم الذي سحره. والقول بأنه قتله ضعيف، ولم يثبت أنه قتله. وأظهر الأقوال عندنا أنه لا يكون أشد حرمة من ساحر المسلمين، بل يقتل كما يقتل ساحر المسلمين. وأما عدم قتله صلى الله عليه وسلم لابن الأعصم فقد بينت الروايات الصحيحة أنه ترك قتله اتقاء إثارة فتنة، فدل على أنه لولا ذلك لقتله. وقد ترك المنافقين لئلا يقول الناس: محمد يقتل أصحابه؛ فيكون في ذلك تنفير عن دين الإسلام، مع اتفاق العلماء على قتل الزنديق وهو عبارة عن المنافق. والله تعالى أعلم.
•
قوله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)}
.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن سحرة فرعون لما عاينوا عصا موسى تبتلع جميع حبالهم وعصيهم خرُّوا سجدًا لله تعالى قائلين: آمنا بالله الذي هو رب هارون وموسى. فهداهم الله بذلك البرهان الإلهي، هذه الهداية العظيمة. وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر؛ كقوله في "الأعراف": {وَأَوْحَينَا إِلَى
مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)}، وقوله في "الشعراء":{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48} ، وقوله:{فَأُلْقِيَ} يدل على قوة البرهان الذي عاينوه؛ كأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التي عاينوها. وذكر في قصتهم أنهم عاينوا منازلهم في الجنة في سجودهم. والظاهر أن ذلك من نوع الإسرائيليات، وأطلق عليهم اسم السحرة في حال سجودهم لله مؤمنين به نظرًا إلى حالهم الماضية؛ كقوله:{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالهُمْ} فأطلق عليهم اسم اليتم بعد البلوغ نظرًا إلى الحال الماضية كما هو معروف في محله.
والظاهر أن تقديم هارون على موسى في هذه الآية لمراعاة فواصل الآيات.
واعلم أن علم السحر مع خِسَّته، وأن الله صرح بأنه يضر ولا ينفع، قد كان سببًا لإيمان سحرة فرعون؛ لأنهم لمعرفتهم بالسحر عرفوا أنَّ معجزة العصا خارجة عن طور السحر، وأنها أمر إلهي فلم يداخلهم شك في ذلك؛ فكان ذلك سببًا لإيمانهم الراسخ الذي لا يزعزعه الوعيد والتهديد. ولو كانوا غير عالمين بالسحر جدًا، لأمكن أن يظنوا أن مسألة العصا من جنس الشعوذة. والعلم عند الله تعالى.
• قوله تعالى: {قَال آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن سحرة فرعون لما آمنوا برب هارون وموسى قال لهم فرعون منكرًا عليهم: {آمَنْتُمْ لَهُ} أي صدقتموه في أنه نبي مرسل من الله، وآمنتم بالله قبل أن آذن لكم. يعني أنهم لم يكفوا عن الإيمان حتى يأذن لهم؛ لأنه يزعم أنهم لا يحق لهم أن يفعلوا شيئًا إلا بعد إذنه هو لهم. وقال لهم أيضًا: إن موسى هو كبيرهم؛ أي كبير السحرة وأستاذهم الذي علمهم السحر. ثم هددهم مقسمًا على أنه يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف؛ يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى مثلًا؛ لأنه أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة؛ لأنه إن كان قطعهما من جهة واحدة يبقى عنده شق كامل صحيح، بخلاف قطعهما من خلاف. فالجنب الأيمن يضعف بقطع اليد، والأيسر يضعف بقطع الرجل كما هو معلوم. وأنه يصلبهم في جذوع النخل، وجذع النخلة هو أخشن جذع من جذوع الشجر، والتصليب عليه أشد من التصليب على غيره من الجذوع كما هو معروف.
وما ذكره جل وعلا عنه هنا أوضحه في غير هذا الموضع أيضًا؛ كقوله في سورة "الشعراء": {قَال آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)} . وذكر هذا أيضًا في سورة "الأعراف" وزاد فيها التصريح بفاعل "قال". وادعاء فرعون أن موسى والسحرة تمالئوا على أن يظهروا أنه غلبهم مكرًا ليتعاونوا على إخراج فرعون وقومه من مصر؛ وذلك في قوله: {قَال فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)} وقوله في "طه": {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} يبين أن التصليب في جذوع النخل هو مراده بقوله في "الأعراف، والشعراء": {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)} ؛ أي في جذوع النخل. وتعدية التصليب بـ"في" أسلوب عربي معروف، ومنه قول سويد بن أبي كامل:
هم صلبوا العبدي في جذع نخلة
…
فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
ومعلوم عند علماء البلاغة: أن في مثل هذه الآية استعارة تبعية في معنى الحرف كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح كلامهم في ذلك ونحوه في سورة "القصص". وقد أوضحنا في كتابنا المسمى (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز) أن ما يسميه البلاغيون من أنواع المجاز مجازًا كلها أساليب عربية نطقت بها العرب في لغتها. وقد بينا وجه عدم جواز المجاز في القرآن وما يترتب على ذلك من المحذور.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)} قال بعض أهل العلم: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا} : يعني: أنا أم رب موسى أشد عذابًا وأبقى. واقتصر على هذا القرطبي؛ وعليه ففرعون يدعي أن عذابه أشد وأبقى من عذاب الله؛ وهذا كقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} ، وقوله:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيرِي} ، وقوله:{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)} . وقال بعضهم: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا} أنا أم موسى أشد عذابًا وأبقى. وعلى هذا فهو كالتهكم بموسى لاستضعافه له، وأنه لا يقدر على أن يعذب من لم