الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حدث إليه وأسر إليه. اهـ منه. وهذا الذي أشرنا إليه هو معنى الخلاف المشهور بين البصريين والكوفيين في تعاقب حروف الجر؛ وإتيان بعضها مكان بعض هل هو بالنظر إلى التضمين، أو لأن الحروف يأتي بعضها بمعنى بعض؟ وسنذكر مثالًا واحدًا من ذلك يتضح به المقصود؛ فقوله تعالى مثلًا:{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} الآية، على القول بالتضمين. فالحرف الذي هو "من" وارد في معناه، لكن "نصر" هنا مضمنة معنى الإنجاء والتخليص، أي أنجيناه وخلصناه من الذين كذبوا بآياتنا. والإنجاء مثلًا يتعدى بمن. وعلى القول الثاني فـ"نصر" وارد في معناه، لكن "من" بمعنى على، أي نصرناه على القوم الذين كذبوا الآية، وهكذا في كل ما يشاكله.
وقد قدمنا في سورة "الكهف" أن اختلاف العلماء في تعيين الشجرة التي نهى الله آدم عن الأكل منها اختلاف لا طائل تحته، لعدم الدليل على تعيينها، وعدم الفائدة في معرفة عينها. وبعضهم يقول: هي السنبلة. وبعضهم يقول: هي شجرة الكرم. وبعضهم يقول: هي شجرة التين، إلى غير ذلك من الأقوال.
•
قوله تعالى: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}
.
الفاء في قوله: {فَأَكَلَا} تدل على أن سبب أكلهما هو وسوسة الشيطان المذكورة قبله في قوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيهِ الشَّيطَانُ} أي فأكلا منها بسبب تلك الوسوسة. وكذلك الفاء في قوله: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} تدل على أن سبب ذلك هو أكلهما
من الشجرة المذكورة، فكانت وسوسة الشيطان سببًا للأكل من تلك الشجرة. وكان الأكل منها سببًا لبدو سوءاتهما. وقد تقرر في الأصول في مسلك (الإيماء والتنبيه): أن الفاء تدل على التعليل كقولهم: سها فسجد، أي لِعِلّة سهوه. وسرق فقطعت يده، أي لِعِلّة سرقته، كما قدمناه مرارًا. وكذلك قوله هنا:{فَوَسْوَسَ إِلَيهِ الشَّيطَانُ قَال يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا} أي بسبب تلك الوسوسة فبدت لهما سوءاتها، أي بسبب ذلك الأكل، ففي الآية ذكر السبب. وما دلت عليه الفاء هنا كما بينا من أن وسوسة الشيطان هي سبب ما وقع من آدم وحواء؛ جاءَ مبينًا في مواضع من كتاب الله، كقوله تعالى:{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} فصرح بأن الشيطان هو الذي أزلهما. وفي القراءة الأخرى "فأزالهما" وأنه هو الذي أخرجهما مما كانا فيه، أي من نعيم الجنة، وقوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} الآية، وقوله:{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره جل وعلا في آية "طه" هذه من ترتب بدو سوءاتهما على أكلهما من تلك الشجرة؛ أوضحه في غير هذا الموضع، كقوله في "الأعراف":{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} ، وقوله فيها. أيضًا:{كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} .
وقد دلت الآيات المذكورة على أن آدم وحواء كانا في ستر من الله يستر به سوءاتهما، وأنهما لما أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عنهما انكشف ذلك الستر بسبب تلك الزلة، فبدت سوءاتهما
أي عوراتهما. وسميت العورة سوءة لأن انكشافها يسوء صاحبها، وصارا يحاولان ستر العورة بورق شجر الجنة، كما قال هنا:{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} ، وقال في "الأعراف":{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} الآية.
وقوله: {وَطَفِقَا} أي شرعا؛ فهي من أفعال الشروع، ولا يكون خبر أفعال الشروع إلا فعلًا مضارعًا غير مقترن بـ"أن" وإلى ذلك أشار في الخلاصة بقوله:
.....................
…
وترك أن مع ذي الشروع وجبا
كأنشأ السائق يحدو وطفق
…
كذا جعلت وأخذت وعلق
فمعنى قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} أي شرعا يلزقان عليهما من ورق الجنة بعضه ببعض ليسترا به عوراتهما. والعرب تقول: خصف النعل يخصفها: إذا خرزها؛ وخصف الورق على بدنه: إذا ألزقها وأطبقها عليه ورقة ورقة. وكثير من المفسرين يقولون: إن ورق الجنة التي طفق آدم وحواء يخصفان عليهما منه إنه ورق التين. والله تعالى أعلم.
واعلم أن الستر الذي كان على آدم وحواء، وانكشف عنهما لما ذاقا الشجرة اختلف العلماء في تعيينه؛ فقالت جماعة من أهل العلم: كان عليهما لباس من جنس الظفر؛ فلما أكلا من الشجرة أزاله الله عنهما إلا ما أبقى منه على رءوس الأصابع. وقال بعض أهل العلم: كان لباسهما نورًا يستر الله به سوءاتهما. وقيل: لباس من ياقوت، إلى غير ذلك من الأقوال . وهو من الاختلاف الذي
لا طائل تحته، ولا دليل على الواقع فيه كما قدمنا كثيرًا من أمثلة ذلك في سورة "الكهف". وغاية ما دل عليه القرآن: أنهما كان عليهما لباس يسترهما الله به؛ فلما أكلا من الشجرة نزع عنهما فبدت لهما سوءاتهما. ويمكن أن يكون اللباس المذكور الظفر أو النور، أو لباس التقوى، أو غير ذلك من الأقوال المذكورة فيه.
وأسند جلا وعلا إبداء ما ووري عنهما من سوءاتهما إلى الشيطان قوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} كما أسند له نزع اللباس عنهما في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} لأنه هو المتسبب في ذلك بوسوسته وتزيينه كما قدمناه قريبًا. وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: كيف جعل سبب الزلة في هذه الآية وهو وسوسة الشيطان مختصًّا بآدم دون حواء قوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيهِ الشَّيطَانُ} مع أنه ذكر أن تلك الوسوسة سببت الزلة لهما معًا كما أوضحناه.
والجواب ظاهر، وهو أنه بين في "الأعراف" أنه وسوس لحواء أيضًا مع آدم في القصة بعينها في قوله:{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيطَانُ} فبينت آية "الأعراف" ما لم تبينه آية "طه" كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
مسألة
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة: وجوب ستر العورة؛ لأن قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} يدل على قبح انكشاف العورة، وأنه ينبغي بذل الجهد في سترها. قال
القرطبي رحمه الله في تفسيره في سورة "الأعراف" ما نصه: وفي الآية دليل على قبح كشف العورة، وأن الله أوجب عليهما الستر، ولذلك ابتدرا إلى سترها، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة كما قيل لهما:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} . وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي: أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستتر بذلك؛ لأنه سترة ظاهرة عليه التستر بها كما فعل آدم في الجنة. والله أعلم. انتهى كلام القرطبي.
ووجوب ستر العورة في الصلاة مجمع عليه بين المسلمين. وقد دلت عليه نصوص من الكتاب والسنة، كقوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الآية، وكبعثه صلى الله عليه وسلم من ينادي عام حج أبي بكر بالناس عام تسع:"ألا يحج بعد هذا العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان". وكذلك لا خلاف بين العلماء في منع كشف العورة أمام الناس. وسيأتي بعض ما يتعلق بهذا إن شاء الله في سورة "النور".
فإن قيل: لم جمع السوءات في قوله: {سَوءاتُهُمَا} مع أنهما سوأتان فقط؟ فالجواب من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن آدم وحواء كل واحد منهما له سوءتان: القبل والدبر، فهي أربع، فكل منهما يرى قبل نفسه وقبل الآخر، ودبره. وعلى هذا فلا إشكال في الجمع.
الوجه الثاني: أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزاءه جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع والتثنية، والإفراد، وأفصحها الجمع، فالإفراد، فالتثنية على الأصح، سواء كانت
الإضافة لفظا أو معنى. ومثال اللفظ: شربت رءوس الكبشين أو رأسهما، أو رأسيهما. ومثال المعنى: قطعت من الكبشين الرءوس، أو الرأس، أو الرأسين. فإن فرق المثنى المضاف إليه فالمختار في المضاف الإفراد، نحو: على لسان داود وعيسى ابن مريم. ومثال جمع المثنى المضاف المذكور الذي هو الأفصح قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ، وقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} ، ومثال الإفراد قول الشاعر:
حمامة بطن الواديين ترنَّمي
…
سقاك من الغير الغوادي مطيرها
ومثال التثنية قول الراجز:
ومهمهين قذفين مرتين
…
ظهراهما مثل ظهور الترسين
والضمائر الراجعة إلى المضاف المذكور المجموع لفظًا وهو مثنى معنًى، يجوز فيها الجمع نظرًا إلى اللفظ، والتثنية نظرًا إلى المعنى، فمن الأول قوله:
خليلي لا تهلك نفوسكما أسى
…
فإن لها فيما به دهيت أسى
ومن الثاني قوله:
قلوبكما يغشاهما الأمن عادة
…
إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر
الوجه الثالث: ما ذهب إليه مالك بن أنس من أن أقل الجمع اثنان. قال في مراقي السعود:
أقل معنى الجمع في المشتهر
…
الاثنان في رأي الإمام الحِمْيَري
وأما إن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف