الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
•
.
قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور؛ كقوله هنا: {كهيعص (1)} في سورة "هود"، فأغنى عن إعادته هنا. وقوله {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي هذا ذكر رحمة ربك. وقيل: مبتدأ خبره محذوف، وتقديره: فيما يتلى عليكم ذكر رحمة ربك، والأول أظهر. والقول بأنه خبر عن قوله:{كهيعص (1)} ظاهر السقوط لعدم ربط بينهما. وقوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} لفظة {ذِكْرُ} مصدر مضاف إلى مفعوله. ولفظة {رَحْمَتِ} مصدر مضاف إلى فاعله وهو {رَبِّكَ} . وقوله: {عَبْدَهُ} مفعول به للمصدر الذي هو {رَحْمَتِ} المضاف إلى فاعله، على حد قوله في الخلاصة:
وبعد جره الذي أضيف له
…
كمل بنصب أو برفع عمله
وقوله: {زَكَرِيَّا (2)} بدل من قوله: {عَبْدَهُ} أو عطف بيان عليه.
وقد بين جل وعلا في هذه الآية: أن هذا الذي يتلى في أول
هذه السورة الكريمة هو ذكر الله رحمته التي رحم بها عبده زكريا حين ناداه نداء خفيًّا أي دعاه في سر وخفية. وثناؤه جل وعلا عليه بكون دعائه خفيًّا يدل على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره وإعلانه. وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية جاء مصرحًا به في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} الآية، وقوله تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} . وإنما كان الإخفاء أفضل من الإظهار لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء. فقول من قال: إن سبب إخفائه دعاءه أنه خوفه من قومه أن يلوموه على طلب الولد، في حالة لا يمكن فيها الولد عادة لكبر سنه وسن امرأته، وكونها عاقرًا، وقول من قال: إنه أخفاه لأنه طلب أمر دنيوي، فإن أجاب الله دعاءه فيه نال ما كان يريد. وإن لم يجبه لم يعلم ذلك أحد، إلى غير ذلك من الأقوال، كل ذلك ليس بالأظهر. والأظهر أن السر في إخفائه هو ما ذكرنا من كون الإخفاء أفضل من الإعلان في الدعاء. ودعاء زكريا هذا لم يبين الله في هذا الموضع مكانه ولا وقته، ولكنه أشار إلى ذلك في سورة في "آل عمران" في قوله:{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَال يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَال رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} الآية. فقوله {هُنَالِكَ} أي في ذلك المكان الذي وجد فيه ذلك الرزق عند مريم. وقال بعضهم: {هُنَالِكَ} أي في ذلك الوقت، بناء على أن هنا ربما أشير بها إلى الزمان. وقوله في دعائه هذا:{ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أي ضعف. والوهن: الضعف. وإنما ذكر ضعف العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه، وهو أصل بنائه
فإذا وهن دل على ضعف جميع البدن؛ لأنه أشد ما فيه وأصلبه، فوهنه يستلزم وهن غيره من البدن.
وقوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيبًا} الألف واللام في {الرَّأْسُ} قاما مقام المضاف إليه. إذ المراد: واشتعل رأسي شيبًا. والمراد باشتعال الرأس شيبًا: انتشار بياض الشيب فيه. قال الزمخشري في كشافه؛ شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزًا، ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكرياء. فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. انتهى منه. والظاهر عندنا كما بينا مرارًا: أن مثل هذا من التعبير عن انتشار بياض الشيب في الرأس باشتعال الرأس شيبًا أسلوب من أساليب اللغة العربية الفصحى جاء القرآن به، ومنه قول الشاعر:
ضيعت حزمي في إبعادي الأملا
…
وما أرعويت وشيبًا رأسي اشتعلا
ومن هذا القبيل قول ابن دريد في مقصورته:
واشتعل المبيض في مسوده
…
مثل اشتعال النار في جزل الغضا
وقوله: {شَيبًا} تمييز محول عن الفاعل في أظهر الأعاريب. خلافًا لمن زعم أنه ما ناب عن المطلق من قوله: {وَاشْتَعَلَ} لأنه اشتعل بمعنى شاب، فيكون {شَيبًا} مصدرًا منه في المعنى؛ ومن زعم أيضًا أنه مصدر منكر في موضع الحال.
وهذا الذي ذكره الله هنا عن زكرياء في دعائه من إظهار
الضعف والكبر جاء في مواضع أخر؛ كقوله هنا: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)} ، وقوله في "آل عمران":{وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ .. } الآية. وهذا الذي ذكره هنا من إظهار الضعف يدل على أنه ينبغي للداعي إظهار الضعف والخشية والخشوع في دعائه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)} أي لم أكن بدعائي إياك شقيًّا، أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك، يعني أنك عودتني الإجابة فيما مضى. والعرب تقول: شقى بذلك إذا تعب فيه ولم يحصل مقصوده. وربما أطلقت الشقاء على التعب، كقوله تعالى:{إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} وأكثر ما يستعمل في ضد السعادة. ولا شك أن إجابة الدعاء من السعادة، فيكون عدم إجابته من الشقاء.
• قوله تعالى عن زكرياء: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} .
معنى قوله: {خِفْتُ الْمَوَالِيَ} أي خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي: أن يضيعوا الدين بعدي، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام، فارزقني ولدًا يقوم بعدي بالدين حق القيام. وبهذا التفسير تعلم أن معنى قوله {يَرِثُنِي} أنه إرث علم ونبوة، ودعوة إلى الله وقيام بدينه، لا إرث مال. ويدل لذلك أمران:
أحدهما: قوله: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين.
والأمر الثاني: ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله
وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال، وإنما يورث عنهم العلم والدين؛ فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا نورث، ما تركنا صدقه". ومن ذلك أيضًا ما رواه الشيخان أيضًا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد، وعلي، والعباس، رضي الله عنهم: أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا نورث ما تركنا صدقة"، قالوا: نعم. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان أيضًا عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن؛ فقالت عائشة: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تركنا صدقة". ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة" وفي لفظ عند أحمد: "لا تقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا". ومن ذلك أيضًا ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه؛ عن أبي هريرة: أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه: من يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي. قالت: فما لنا لا نرث النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن النبي لا يورث" ولكن أَعُوْل من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق.
فهذه الأحاديث وأمثالها ظاهرة في أن الأنبياء لا يورث عنهم المال بل العلم والدين. فإن قيل: هذا مختص به صلى الله عليه وسلم؛ لأن قوله "لا نورث" يعني به نفسه؛ كما قال عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح المشار إليه عنه آنفًا: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء
والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا نورث ما تركنا صدقة" يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه. فقال الرهط: قد قال ذلك. . . الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح أن عمر قال: إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا نورث" نفسه، وصدقه الجماعة المذكورون في ذلك، وهذا دليل على الخصوص فلا مانع إذن من كون الموروث عن زكريا في الآية التي نحن بصددها هو المال؟ فالجواب من أوجه:
الأول: أن ظاهر صيغة الجمع شمول جميع الأنبياء، فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا بدليل من كتاب أو سنة. وقول عمر لا يصح تخصيص نص من السنة به؛ لأن النصوص لا يصح تخصيصها بأقوال الصحابة على التحقيق كما هو مقرر في الأصول.
الوجه الثاني: أن قول عمر "يريد صلى الله عليه وسلم نفسه" لا ينافي شمول الحكم لغيره من الأنبياء، لاحتمال أن يكون قصده يريد أنه هو صلى الله عليه وسلم يعني نفسه فإنه لا يورث، ولم يقل عمر إن اللفظ لم يشمل غيره، وكونه يعني نفسه لا ينافي أن غيره من الأنبياء لا يورث أيضًا.
الوجه الثالث: ما جاء من الأحاديث صريحًا في عموم عدم الإرث المالي في جميع الأنبياء. وسنذكر طرفًا من ذلك هنا إن شاء الله تعالى.
قال ابن حجر في فتح الباري ما نصه: وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ "نحن" لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد
بلفظ "إنا معاشر الأنبياء لا نورث. ." الحديث، أخرجه عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه. وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور. وأخرجه الطبراني في الأوسط بنحو اللفظ المذكور. وأخرجه الدارقطني في العلل من رواية أم هانئ عن فاطمة رضي الله عنها، عن أبي بكر الصديق بلفظ:"إن الأنبياء لا يورثون" انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر. وقد رأيت فيه هذه الطرق التي فيها التصريح بعموم الأنبياء. وقد قال ابن حجر: إن إنكار الحديث المذكور غير مسلم إلا بالنسبة لخصوص لفظ "نحن" وهذه الروايات التي أشار لها تشد بعضها. وقد تقرر في الأصول أن البيان يصح بكل ما يزيل الإشكال ولو قرينة أو غيرها كما قدمناه موضحًا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، وعليه؛ فهذه الأحاديث التي ذكرنا تبين أن المقصود من قوله في الحديث المتفق عليه "لا نورث" أنه يعني نفسه كما قال عمر، وجميع الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة. والبيان إرشاد ودلالة يصح بكل شيء يزيل اللبس عن النص من نص أو فعل أو قرينة أو غير ذلك. قال في مراقي السعود في تعريف البيان وما به البيان:
تصيير مشكل من الجلي
…
وهو واجب على النبي
إذا أريد فهمه وهو بما
…
من الدليل مطلقًا يجلو العما
وبهذا الذي قررنا تعلم: أن قوله هنا: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يعني وراثة العلم والدين لا المال. وكذلك قوله: {وَوَرِثَ
سُلَيمَانُ دَاوُودَ} الآية؛ فتلك الوراثة أيضًا وراثة علم ودين. والوراثة قد تطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين، كقوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا .. } الآية، وقوله:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} ، وقوله:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ .. } الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة الواردة في ذلك ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العلماء ورثة الأنبياء" وهو في المسند والسنن قال صاحب تمييز الطيب من الخبيث، فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث: رواه أحمد وأبو داود والترمذي وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعًا بزيادة "إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم" وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما. انتهى منه بلفظه. وقال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: "العلماء ورثة الأنبياء" رواه أحمد والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعًا بزيادة "إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم. ." الحديث، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه حمزة الكناني وضعفه غيرهم لاضطراب سنده لكن له شواهد. ولذا قال الحافظ: له طرق يعرف بها أن للحديث أصلًا، ورواه الديلمي عن البراء بن عازب بلفظ الترجمة اهـ محل الغرض منه. والظاهر صلاحية هذا الحديث للاحتجاج لاعتضاد بعض طرقه ببعض. فإذا علمت ما ذكرنا من دلالة هذه الأدلة على أن الوراثة المذكورة في الآية وراثة علم ودين لا وراثة مال، فاعلم أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:
الأول: هو ما ذكرنا.
والثاني: أنها وراثة مال.
والثالث: أنها وراثة مال بالنسبة له، وبالنسبة لآل يعقوب في قوله:{وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وراثة علم ودين. وهذا اختيار ابن جرير الطبري. وقد ذكر من قال: إن وراثته لزكريا وراثة مال حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال: "رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته" أي ماذا يضره إرث ورثته لماله. ومعلوم أن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. والأرجح فيما يظهر لنا هو ما ذكرنا من أنها وراثة علم ودين؛ للأدلة التي ذكرنا وغيرها مما يدل على ذلك. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره هنا ما يؤيد ذلك من أوجه. قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} : وجه خوفه أنه خشى أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفًا سيئًا فسأل الله ولدًا يكون نبيًّا من بعده؛ ليسوسهم بنبوءته بما يوحي إليه فأجيب في ذلك؛ لا أنه خشى من وراثتهم له ماله؛ فإن النبي أعظم منزلة، وأجل قدرًا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم. وهذا وجه.
الثاني: أنه لم يذكر أنه كان ذا مال؛ بل كان نجارًا يأكل من كسب يديه. ومثل هذا لا يجمع مالًا، ولاسيما الأنبياء، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
الثالث: أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" وفي رواية عند الترمذي
بإسناد صحيح: "نحن معشر الأنبياء لا نورث" وعلى هذا فتعين حمل قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي} على ميراث النبوة. ولهذا قال {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} كقوله: {وَوَرِثَ سُلَيمَانُ دَاوُودَ} أي في النبوة، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة. إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل: أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها. وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث:"نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة" اهـ محل الغرض من كلام ابن كثير، ثم ساق بعد هذا طرق الحديث الذي أشرنا له "يرحم الله زكريا وما كان عليه من ورثة ماله" الحديث. ثم قال في أسانيده: وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح.
واعلم أن لفظ "نحن معاشر الأنبياء" ولفظ "إنا معاشر الأنبياء" مؤداهما واحد؛ إلا أن "إن" دخلت على "نحن" فأبدلت لفظة "نحن" التي هي المبتدأ بلفظة "نا" الصالحة للنصب، والجملة هي هي إلا أنها في أحد اللفظين أكدت بـ"إن" كما لا يخفى.
• وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)} يعني بهذا الولي الولد خاصة دون غيره من الأولياء؛ بدليل قوله تعالى في القصة نفسها: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَال رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً .. } الآية، وأشار إلى أنه الولد أيضًا بقوله:{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيرُ الْوَارِثِينَ} فقوله: {لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} أي واحدًا بلا ولد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن زكريا: {وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} أي من بعدي إذا مت أن يغيروا في الدين. وقد قدمنا أن الموالي الأقارب والعصبات، ومن ذلك قوله تعالى:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الآية. والمولى في لغة العرب: يطلق على كل من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به. وكثيرًا ما يطلق في اللغة على ابن العم؛ لأن ابن العم يوالي ابن عمه بالقرابة العصبية. ومنه قول طرفة ابن العبد:
واعلم علمًا ليس بالظن أنه
…
إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
يعني إذا ذلت بنو عمه فهو ذليل. وقول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
سهلا ابن عمنا مهلا موالينا
…
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} ظاهر في أنها كانت عاقرًا في زمن شبابها. والعاقر: هي العقيم التي لا تلد وهو يطلق على الذكر والأنثى؛ فمن إطلاقه على الأنثى هذه الآية، وقوله تعالى عن زكريا أيضًا:{وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} . ومن إطلاقه على الذكر قول عامر بن الطفيل:
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرًا
…
جبانًا فما عذري لدى كل محضر
وقد أشار تعالى إلى أنه أزال عنها العقم، وأصلحها، فجعلها ولودًا بعد أن كانت عاقرًا في قوله عز وجل:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} فهذا الإصلاح هو كونها صارت تلد بعد أن كانت عقيمًا. وقول من قال: إن إصلاحها المذكور هو جعلها حسنة الخلق بعد أن كانت سيئة الخلق لا ينافي
ما ذكر لجواز أن يجمع له بين الأمرين فيها، مع أن كون الإصلاح هو جعلها ولودًا بعد العقم هو ظاهر السياق، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير، ومجاهد وغيرهم. والقول الثاني يروى عن عطاء.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن زكريا: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} أي مرضيًا عندك وعند خلقك في أخلاقه وأقواله وأفعاله ودينه، وهو فعيل بمعنى مفعول.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} أي من عندك. وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قرأه أبو عمرو والكسائي بإسكان الثاء المثلثة من الفعلين، أعني (يَرِثْنِي ويَرِثْ من آل يعقوب) وهما على هذه القراءة مجزومان لأجل جواب الطلب الذي هو "هب لي" والمقرر عند علماء العربية: أن المضارع المجزوم في جواب الطلب مجزوم بشرط مقدر يدل عليه فعل الطلب، وتقديره في هذه الآية التي نحن بصددها: إن تهب لي من لدنك وليًّا يرثنى ويرث من آل يعقوب. وقرأ الباقون: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} برفع الفعلين على أن الجملة نعت لقوله: {وَلِيًّا (5)} أي وليًّا وارثًا لي، ووارثًا من آل يعقوب، كما قال فِي الخلاصة:
ونعتوا بجملةٍ منكَّرًا
…
فأُعْطِيَت ما أُعْطِيَتْه خَبَرا
وقراءة الجمهور برفع الفعلين أوضح معنى. وقرأ ابن كثير بفتح الياء من قوله: {مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي} والباقون بإسكانها. وقرأ (زكريا) بلا همزة بعد الألف حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. والباقون قرءوا (زكرياء) بهمزة بعد الألف،