الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه في المناكحة والألفة والاجتماع. وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به. فسبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه وأكمل قدرته!.
وفي هذه الأشياء المذكورة في معنى هذه الآية الكريمة براهين قاطعة على أنه جل وعلا رب كل شيء، وهو المعبود وحده جل وعلا:{لَا إِلَهَ إلا هُوَ كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ} .
وقد حرر العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته في علوم القرآن: أن مثل هذا الاختلاف من اختلاف السلف في معاني الآيات ليس اختلافًا حقيقيًّا متضادًا يكذب بعضه بعضًا، ولكنه اختلاف تنوعي لا يكذب بعضه بعضًا، والآيات تشمل جميعه، فينبغي حملها على شمول ذلك كله، وأوضَحَ أن ذلك هو الجاري على أصول الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، وعزاه لجماعة من خيار أهل المذاهب الأربعة. والعلم عند الله تعالى.
•
.
قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة والكسائي {مَهْدًا} بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف. وقرأ الباقون من السبعة بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف. والمهاد: الفراش. والمهد بمعناه. وكون أصله مصدرًا لا ينافي أن يستعمل اسمًا للفراش.
وقوله في هذه الآية: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ} في محل رفع
نعت لـ {رَبِّي} من قوله قبله: {قَال عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} أي: لا يضل ربي الذي جعل لكم الأرض مهدًا. ويجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف، أي: هو الذي جعل لكم الأرض. ويجوز أن ينصب على المدح، وهو أجود من أن يقدر عامل النصب لفظة "أعني"، كما أشار إلى هذه الأوجه من الإعراب في الخلاصة بقوله:
وارفعْ أو انصب إن قطعت مضمرًا
…
مبتدأ أو ناصبًا لن يظهرا
هكذا قال غير واحد من العلماء. والتحقيق أنه يتعين كونه خبر مبتدأ محذوف؛ لأنه كلام مستأنف من كلام الله. ولا يصح تعلقه بقول موسى: {لَا يَضِلُّ رَبِّي} لأن قوله: {فَأَخْرَجْنَا} يعين أنه من كلام الله، كما نبه عليه أبو حيان في البحر، والعلم عند الله تعالى.
وقد بين جل وعلا في هاتين الآيتين أربع آيات من آياته الكبرى الدالة على أنه المعبود وحده؛ ومع كونها من آيات على كمال قدرته واستحقاقه العبادة وحده دون غيره، فهي من النعم العظمى على بني آدم.
الأولى: فرشه الأرض على هذا النمط العجيب.
الثانية: جعله فيها سبلًا يمر معها بنو آدم ويتوصلون بها من قطر إلى قطر.
الثالثة: إنزاله الماء من السماء على هذا النمط العجيب.
الرابعة: إخراجه أنواع النبات من الأرض.
أما الأولى -التي هي جعله الأرض مهدًا-: فقد ذكر الامتنان بها مع الاستدلال بها على أنه المعبود وحده في مواضع كثيرة من كتابه؛ كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} الآية، وقوله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَال أَوْتَادًا (7)} ، وقوله تعالى:{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)} ، وقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا} . والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.
وأما الثانية: التي هي جَعْله فيها سبلًا؛ فقد جاء الامتنان والاستدلال بها في آيات كثيرة؛ كقوله في "الزخرف": {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)} . وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)} وقد قدمنا الآيات الدالة على هذا في سورة "النحل" في الكلام على قوله: {وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)} .
وأما الثالثة والرابعة: وهما إنزال الماء من السماء وإخراج النبات به من الأرض؛ فقد تكرر ذكرهما في القرآن على سبيل الامتنان والاستدلال معًا؛ كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ} الآية. وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا} فيه التفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم؛ ونظيره في القرآن قوله تعالى في "الأنعام": {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} الآية، وقوله في "فاطر":{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} الآية، وقوله في "النمل":{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} الآية.
وهذا الالتفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم في هذه الآيات كلها في إنبات النبات؛ يدل على تعظيم شأن إنبات النبات لأنه لو لم ينزل الماء ولم ينبت شيئًا لهلك الناس جوعًا وعطشًا. فهو يدل على عظمته جل وعلا، وشدة احتياج الخلق إليه، ولزوم طاعتهم له جل وعلا.
وقوله في هذه الآية: {أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} أي أصنافًا مختلفة من أنواع النبات، فالأزواج: جمع زوج، وهو هنا المصنف من النبات، كما قال تعالى في سورة "الحج":{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} أي: من كل صنف حسن من أصناف النبات، وقال تعالى في سورة "لقمان":{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)} أي: من كل نوع حسن من أنواع النبات، وقال تعالى في سورة "يس":{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: {شَتَّى (53)} نعت لقوله: {أَزْوَاجًا} . ومعنى قوله: {أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)} أي أصنافًا مختلفة الأشكال والمقادير،
والمنافِع والألوان، والروائح والطعوم. وقيل:{شَتَّى (53)} نعت لـ {نَبَاتٍ} أي نبات مختلف كما بينا. والأظهر الأول، وقوله:{شَتَّى (53)} جمع شتيت؛ كمريض ومرضى. والشتيت: المتفرق؛ ومنه قول رؤبة يصف إبلًا جاءت مجتمعة ثم تفرقت، وهي تثير غبارًا مرتفعًا:
جاءت معًا وأطرقت شتيتًا
…
وهي تثير الساطع السختيتا
وثغر شتيت: أي متفلج لأنه متفرق الأسنان؛ أي ليس بعضها لاصقًا ببعض.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} قد قدمنا أن معنى السلك: الإدخال. وقوله: {وَسَلَكَ} هنا معناه أنه جعل في داخل الأرض بين أوديتها وجبالها سبلًا فجاجًا يمر الخلق معها. وعبر عن ذلك هنا بقوله: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} وعبر في مواضع أخر عن ذلك بالجعل، كقوله في "الأنبياء":{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)} وقوله في "الزخرف": {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)} وعبر في بعض المواضِع عن ذلك بالإلقاء كقوله في "النحل": {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ؛ لأن عطف السُّبل على الرواسي ظاهر في ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} أي كلوا أيها الناس من الثمار والحبوب التي أخرجناها لكم من الأرض بالماء الذي أنزلنا من جميع ما هو غذاء لكم من الحبوب والفواكه ونحو ذلك، وارعوا أنعامكم؛ أي: أسيموها وسرحوها في المرعى