الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تخصيص العموم بفعله صلى الله عليه وسلم
-:
إذا ورد فعله صلى الله عليه وسلم مخالفاً في الحكم لمقتضى قول عام، كما نهى عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، وثبت أنه فعل ذلك، فإن إمكان خروجه هو صلى الله عليه وسلم من حكم العام لا إشكال فيه. وأما بالنسبة إلى الأمة، فهل يصحّ أن يكون ذلك تخصيصاً في حقهم؟ كأن يقال في المثال المتقدّم بجواز الاستقبال والاستدبار في البنيان دون الصحراء، استدلالاً بالفعل.
هذه المسألة تنبني على حجية الفعل في حق الأمة:
فمن قال إن الفعل لا يدل في حق الأمة على شيء، منع التخصيص به في مخالفة العموم. وقد نقل نفي جواز التخصيص بالفعل عن الكرخي وبعض الشافعية. واشترط الكرخي للجواز تكرر الفعل، لأنه إذا فعله مرة واحدة احتمل أن يكون من خصائصه صلى الله عليه وسلم (1).
واشترط الغزالي أن يَدُلّ بالقول على أن الفعل بيان (2).
ومن توقف في ذلك، توقف في التخصيص به.
وأما الذين قالوا في غير حال مخالفة العموم إن الفعل دليل في حق الأمة، وهو القول المختار، فلم يتفقوا على جواز التخصيص بالفعل في مخالفة العموم، بل ساروا في اتجاهين:
الاتجاه الأول: امتناع التخصيص بالفعل، ذهب إلى ذلك الآمدي، واختار الوقف (3)، ووجه ذلك عنده أن عموم الأمر باتباع الأفعال والتأسّي بها، عارضه عموم القول المتقدم، وليس إبطال أحد العمومين عنده أولى من إبطال الآخر.
ونُقِل مثل هذا القول عن القاضي عبد الجبار (4). وقال به أبو الحسين
(1) الزركشي: البحر المحيط 2/ 146 ب.
(2)
المستصفى 2/ 28
(3)
الإحكام 2/ 482
(4)
العلائي: تفصيل الإجمال ق 48 ب. أبو شامة: للمحقق ق 47 أ.
البصري في باب (الأفعال)(1) من كتابه، وأجاز التخصيص بالفعل في باب (العموم)(2) منه.
وابن الحاجب (3) يرى أنه إن كان ثمة دليل خاص يوجب التأسّي بالفعل يكون نسخاً للقول إذا علم تأخره. وإن لم يكن دليل خاص، بل الدليل العام لوجوب الاتباع، فإن الدليل العام لوجوب الاتباع يكون مخصصاً بالقول المتقدم، فيبقى عليهم حكم القول المتقدم، ويمتنع اقتداؤهم به في الفعل.
الاتجاه الثاني: وعليه عمل جمهور الفقهاء وتصرّفاتهم في الفروع؛ فإنها تدل على أنهم يجيزون التخصيص بالأفعال. ونسب الآمدي (4) القول بذلك إلى الشافعية والحنفية والحنابلة. وإليه ذهب أبو إسحاق الشيرازي (5)، والقاضي أبو يعلى (6)، والسمعاني (7) وغيرهم، واختاره الحافظ العلائي (8). فالفعل يكون عندهم مخصّصاً للقول العام في حق الأمّة أيضاً. وسواء تقدّم الفعل أو تأخّر، أو جهل التاريخ، على القول الراجح في تقديم الخاصّ على العام.
قال العلائي: "والحجة لذلك أن القول بتخصيص فعله به صلى الله عليه وسلم، موجبٌ إبطال الدليل الدالّ على التأسّي به في ذلك الفعل، والقول بتخصيص القول بإحدى حالاته وتعميم حكم الفعل في حقه وحق الأمة إعمال للدليلين، وإعمال الدليلين أولى من ابطال أحدهما".
قال: "ويتأيّد هذا بأن الأصل مشاركة الأمة له في الأحكام، إلاّ ما دلّ دليل على تخصيصه به صلى الله عليه وسلم".
وأما ابن حزم (9) فيرى أنه يجوز تخصيص عموم القول بالفعل إن تأخّر
(1) المعتمد 1/ 392
(2)
المعتمد 1/ 275
(3)
مختصر ابن الحاجب 2/ 151
(4)
الإحكام 2/ 480
(5)
اللمع 21
(6)
العدة ق 123 أ.
(7)
القواطع ق 54 أ.
(8)
تفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال. ق 48 ب.
(9)
الإحكام 1/ 434
الفعل، لا إن تقدم الفعل، أو جهل الحال فإن تقدم الفعل وجب اعتقاد الفعل منسوخاً. وإن جهل الحال فالأشبه أن يكون الفعل متقدماً في الزمان ويكون منسوخاً.
والصحيح ما اختاره الحافظ العلائي، لأن منصب النبي صلى الله عليه وسلم منصب البيان والتشريع، وأفعاله صلى الله عليه وسلم في ذلك هي موضع القدوة والأسوة، فيقتدى بها حيث أمكن.
وإنما يمكن حملها على التخصيص إذا ظهر أنه صلى الله عليه وسلم، إنما خالف قوله لسبب معيّن، أو أمكن تعقّل معنى مناسب، يكون مناطاً لحكم الفعل. فإن لم يمكن ذلك وجب المصير إلى النسخ.
ومن أمثلة التخصيص ما ورد من حثّه صلى الله عليه وسلم على صيام يوم عرفة، وترغيبه فيه، ثم أفطر بعرفة لما كان واقفاً بها. وقد أفطر وهو على بعيره ليراه الناس فكان هذا الفعل مخصصاً لحثه وترغيبه في الصيام، بالنسبة إلى ذلك المكان لمعنى يخصّه لا يوجد في غيره، وهو التقوِّي بالفطر على الاستكثار من الدّعاء، وذكر الله تعالى في ذلك الموقف الشريف (1).
فإن لم يمكن الجمع والتخصيص تعارض القول والفعل، ووجب المصير إلى إبطال أحد الدليلين، أو التوقف.
ونبدأ بتحقيق الظروف التي لا يتحقق التعارض دون توفرها.
(1) تفصيل الإجمال ق 53 ب. المحقق ص 49