الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث الأوجُه الفِعليَّة لِلقَول
المبحث الأوّل التفريق بين الوجه العباري وبين الوجه الفعلي للقول
تعريف القول: القول هو اللفظ المفرد أو المركب الدالّ على معنى (1).
واضح من تعريفنا للقول بأنه (اللفظ
…
إلخ) أن ذلك يقتضي إدخال القول في حد الفعل، فيكون القول فعلاً.
وقد تعرّض لهذه القضية الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في شرحه (2) لحديث: "إنما الأعمال بالنيات
…
" فقال:
(1) خالد الأزهري: التصريح على التوضيح 1/ 37
تنبيه: استعمال القول بمعنى الفعل:
يعبر العرب أحياناً بـ (قال) عن الفعل، فيكون ذلك خارجاً عن موضوع هذا الفصل وداخلاً في باب الأفعال الصريحة.
فمن ذلك أنهم يطلقونه على غير الكلام. فتقول العرب: قال بيده هكذا، أي فعل هكذا، وقال بالماء على يده، أي قلبه.
وقد يستعمل بمعنى التهيوء للأفعال والاستعداد لها، يقال: قال فأكل، وقال فضرب. وقد يستعمل بمعنى ضرب، وغلب، ومات.
(2)
أحكام الإحكام 1/ 10
رأيت بعض المتأخرين من أهل الخلاف خصّص الأعمال بما لا يكون قولاً وأخرج الأقوال من ذلك. وفي هذا عندي بعد.
وينبغي أن يكون لفظ "العمل" يعم جميع أفعال الجوارح.
نعم لو خصّص بذلك لفظ "الفعل" لكان أقرب، فإنهم استعملوهما متقابلين، فقالوا: الأفعال والأقوال. ولا تردّد عندي في أن الحديث يتناول الأقوال أيضاً. اهـ كلامه.
وواضح من كلامه أنه يرى أن (العمل) يشمل القول، وأن (الفعل) مباين للقول، وأن دليله على ذلك استعمال الفعل والقول متقابلين في كلام الفصحاء.
وعندي أن هذا الدليل غير قائم. بل القول هو فعل من بعض الوجوه وخارج عن الفعل من وجه آخر.
وتوضيح ذلك أن القول هو قول من حيث دلالة عبارته على ما دلّت عليه بالوضع أو التجوّز. وسواء كانت دلالته بالمطابقة، أو التضمّن أو الالتزام. وهو فعل من حيث إيقاعه أوْ لا إيقاعه، ومن حيث صفة صدوره عن القائل، ومن حيث تعلُّقُه بما تعلق به.
هذا وإن العمل بمدلول العبارة هو عمل بالقول، أما إيقاع قولٍ آخر مثل القول فهو اقتداء بالقول من حيث هو فعل.
فالقول إنما يطلق على ما يتلفّظ به من حيث مدلول العبارة، لا من جهة أخرى. ومدلول العبارة هو أن الكلام خبر أو أمر أو نهي أو تعجّب أو استفهام أو تمنٌّ أو غير ذلك من هذه المعاني القولية.
لكن القول من حيث إخراجه من حيّز العدم إلى حيّز الوجود هو فعل من الأفعال. وكذلك من حيث تأثيره في ما يؤثر فيه، وتعلّقه بما تعلّق به.
وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم يجري فيها على هذا الأسلوب. فهي أفعال من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أوقعها، فأخرجها إلى حيّز الوجود، ثم قد يكون قالها مرتبطةً بزمان أو مكان، كأذكار رؤية الهلال، ودخول المسجد الحرام، والوقوف بعرفة، وأذكار
الصلاة وغير ذلك
…
فتكون من هذه الجهة أفعالاً، ويجري في الاستدلال بها في حقّنا على قانون الأفعال. فما علم أنه صلى الله عليه وسلم قاله بياناً لواجب أو امتثالاً له وجب علينا أن نقول مثله، وما قاله بياناً لمستحب أو امتثالاً له فمثله منا مستحب. وإن قاله بياناً لمبيح أو تطبيقاً له فإيقاع مثله منا مباح. وإن لم يكن كذلك فهو فعل مجرّد، نستدل به كما نستدل بسائر الأفعال المجرّدة.
وأما ما تضمنته العبارة من إسناد الخبر إلى المبتدأ، أو الفعل إلى الفاعل، أو الطلب ونحوه، فهي الدلالة القولية. والحكم المستفاد من الجهة القولية إنما يستفاد من هذه الناحية لا غير. فالأمر يدل على الوجوب، والنهي يدل على التحريم وهكذا.
وكمثال على ذلك نذكر حديث صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيت أزوره ليلاً. فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلِبَني، فمرّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رِسْلِكما، إنها صفيةُ بنتُ حُيَيّ. فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً"(1) أو قال: "شرّاً".
فقوله: "على رسلكما" طلب للتمهل، ودلالته على ذلك دلالة قولية.
وقوله: "إنها صفية بنت حييّ" إخبار لهما عن المرأة التي معه، وأنها زوجته. فهذا خبر مفهوم من الجهة القولية أيضاً.
ودلالته على جواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف دلالة قولية، من القياس بنفي الفارق.
أما دلالته على أنه يندب للإنسان أن يبيِّن في مثل هذا الموقف، إزاحة للتهمة عن نفسه، وانتشالاً لأخيه من مهواة الإثم بسوء الظن، فهي دلالة فعلية، تستفاد من القول من حيث هو فعل كسائر الأفعال، يُجْرى فيه على قانونها في الاستدلال.
(1) متفق عليه (جامع الأصول 1/ 247).
وقد مثّل الشاطبي في باب الأفعال (1) بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم للزاني بصريح السؤال، حيث قال له:"أفعلت كذا؟ أفعلت كذا؟ " حتى قال له: "كما يدخل الرشاء في البئر؟ " إلى آخر ما قال صلى الله عليه وسلم.
قال الشاطبي: والقول هنا فعل، لأنّه معنى تكليفيّ لا تعريفيّ. فالتعريفي هو المعدود في الأقوال، وهو الذي يؤتى به أمراً أو نهياً أو إخباراً بحكم شرعي، والتكليفي هو الذي لا يعرِّف الحكم بنفسه من حيث هو قول، كما أن الفعل كذلك. اهـ.
فهذا تفصيل جيد.
ولكنا لسنا نرتضي هذه التسمية (المعنى التكليفي) لأن التكليف متعلّق بالشرع، والمسألة لغويّة محضة. وهذا الاختلاف بين جهتي القول واقع في كل قول، سواء صدر من المنتسبين إلى الشرع أم غيرهم.
فما عبّرنا به من (الوجه الفعلي للقول) أوضح ممّا عبّر به الشاطبي رحمه الله.
وقد ذكر أبو الحسين البصري (2) في زيادات المعتمد، في قسم الأفعال، قضاءه صلى الله عليه وسلم على الغير، ثم قال:
"ولقائل أن يقول: لم أدخلتم القضاء في جملة الأفعال، مع أنه قول؟ وأنتم إنما تتكلمون في أبواب الأفعال في الأفعال التي هي أفعال الجوارح؟ قال: والجواب: إنما تكلّمنا في القضاء هاهنا لأنه كأفعال الجوارح بالغير. ولم يجزْ ذكره في ما قبل، فذكرناه هاهنا لمشابهته للأفعال المتعلقة بالغير قال: وإذا أردنا حَسْم هذا الاعتراض قلنا في القسمة: إن ما يسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ما يتعلق بغيره أفعال وتروك. والأفعال ضربان: أفعال هي أقوال، وأفعال ليست أقوالاً".
ثم قال: "وإنما قسمْنا الأفعال إلى أقوال وإلى غير أقوال، لأنّ الفعل إذا أطلق أفاد كل ما يفعله الفاعل من قول وغير قول. وإذا جعل في مقابلة قول، لم يدخل القول تحت الفعل". اهـ.
(1) الموافقات 4/ 59
(2)
المعتمد 2/ 1006