الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأوّل أفعاله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة
كانت بعثته صلى الله عليه وسلم حداً فاصلاً بين عهدين: عهد كان فيه بشراً كسائر البشر غير متميّز عنهم بشيء، ولم يطالَب أحد من معاصريه بأن يقتدي بشيء من قوله أو من فعله، فهو يسير بينهم واحداً منهم؛ وعهدٍ آخر كان فيه رسولاً من الله للعالمين.
وقد اختلف الأصوليون هل كان صلى الله عليه وسلم في العهد الأول متعبّداً بشرع سماويّ؟.
فمنهم من أثبت ذلك، ونسب القرافي هذا المذهب إلى الإمام مالك (1).
ومنهم من نفاه، ونسبه ابن الهمّام إلى المالكية والمتكلّمين، فمنعته المعتزلة، وقال الباقلاني يجوز ولم يقع (2).
وهي مسألة يتداولها الأصوليون. ولكن قال القرافي: "قال المازري وإمام الحرمين: هذه المسألة لا تظهر لها ثمرة في الأصول ولا في الفروع ألبتة، بل تجري مجرى التواريخ. ولا ينبني عليها حكم في الشريعة"(3).
وقد نقل أصحاب السِّيَر وأصحاب السنن كثيراً من أفعاله وأحواله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة. وليس المراد بنقولهم هذه أن تكون موضعاً لاستنباط الأحكام الشرعية. والاقتداء بما قال أو فعل. وإنما كان مرادهم أن ينقلوا ما يستدلّ به على أحواله التي
(1) القرافي: شرح تنقيح الفصول ص 130
(2)
تيسير التحرير 3/ 130
(3)
القرافي: شرح تنقيح الفصول ص 130
تنفع في المعرفة بنبوّته وصدقه. قال ابن تيمية: "فهذه الأمور ينتفع بها في دلائل. النبوّة كثيراً. ولذلك يُذكَر مثل ذلك في كتب سيرته، كما يذكر فيها نسبه وأقاربه، وغير ذلك مما يعلم به أحواله"(1).
ومثال ذلك ما ذكرته خديجة حين قالت (2): "كلاّ والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم وتعيّن على نوائب الحق".
ولهذا كان أعلم الناس به صلى الله عليه وسلم أسرعهم إلى تصديقه، لما يعلمون من صدقه وأمانته.
ثم ذكر ابن تيمية أن كتب الحديث أخصّ بما بعد النبوّة، وقد تذكر أشياء مما حدث قبل النبوة، ولكنها "لا تؤخذ لتشرع
…
بل قد أجمع المسلمون على أن الذي فرض (الله) على عباده الإيمان به والعمل هو ما جاء به بعد النبوة. ولهذا كان من ترك الجماعة وتخلّى في الغيران والجبال، حيث لا جمعة ولا جماعة، وزعم أنه يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكونه متحنّثاً في غار حراء قبل النبوة، في ترك ما شرع من العبادات الشرعية التي أمر الله بها رسوله، كان مخطئاً. فإنه بعد أن كرمه الله بالنبوّة لم يكن يفعل ما فعله قبل ذلك من التحنث".
وهذا الكلام الذي ذكره ابن تيمية حق. إلاّ أنه يعرض النظر في أن الله تعالى، وإن لم يكن قد كلّف محمداً صلى الله عليه وسلم بأعباء الرسالة، لكنه قد صنعه على عينه، وجده يتيماً فآواه، وعائلاً فأغناه، وأدّبه فأحسن تأديبه. وهذا يقتضي أن بعض العادات التي تميّز بها، وأُثرت عنه في ذلك العهد، يمكن أن تكون موضع قدوة. وهذا إنما يكون في ما يظهر حسنه ولا يخالف شرعاً. وقد وجدنا البخاري قال في صحيحه: باب كراهة التعرّي في الصلاة وغيرها. ولم يذكر فيه إلا حديث جابر: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له عمه العباس: يا ابن أخي، لو حلّلت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة". قال: "فحلّه فجعله على منكبيه، فسقط مغشياً عليه. فما رؤي بعد ذلك عرياناً"(3).
(1) الفتاوى الكبرى 18/ 10
(2)
البخاري 1/ 22 ومسلم.
(3)
صحيح البخاري 1/ 474
ويحتمل أن البخاري احتجّ به من جهة ما في قوله: "فما رؤي بعد ذلك عرياناً"، فإنها تشمل ما بعد النبوّة. ولكن قال ابن حجر:"فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان مصوناً عما يستقبح قبل النبوّة وبعدها".
وروى أبو داود في كتاب الأدب من سننه قول السائب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت شريكي فنعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري"(1).
(1) أبو داود 13/ 181 وأحمد 3/ 435