الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع حديث الترمذي: "أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدّخر شيئاً لغد"(1).
هذا من التعارض في النقل. ويقدّم حديث الصحيحين، ويسقط حديث الترمذي، لأن المثبِتَ مقدّم على النافي، ولأن حديث الصحيحين أقوى.
تنبيه: الحديث الذي احتجّ به القائلون بالتعارض، وهو ما قال ابن عباس: "يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس نصّاً في أنه يجب المصير إلى الفعل الثاني في جميع فروع المسألة، واعتبار الأول منسوخاً، بل ربما كان في بعض الصور على سبيل تقديم الثاني تقديم أولوية وأفضلية، لا تقديم ناسخ على منسوخ. وهذا واضح في حديث ابن عباس، فإنه قال ذلك في شأن إفطار النبي صلى الله عليه وسلم في السفر في غزوة الفتح، فجواز الإفطار في السفر قائم باتفاق. ولكن الاختلاف في الأفضلية، فعليها ينصب استدلال ابن عباس.
وإنما يتعيّن المصير إلى النسخ حيث يتم التعارض وتوجد شروطه. والله أعلم.
مسألة اختلاف الفعلين قلة وكثرة:
هذه مسألة مهمة ذكرها الشاطبي (2). وهي كالتقييد لما أطلقه غيره من الأصوليين.
وحاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون فِعْلُه في عبادة ما، مستمراً على طريقة معينة، ولكنه يؤثر أحياناً فعلاً مخالفاً للأول، إما على قلة، وإما في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال.
فالذي ينبغي إزاء هذا، أن تقسم المسألة إلى قسمين:
الأول: أن يكون للقلة سبب معلوم، من أجله خالف الأمر المستمرّ، ومثاله أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصلوات لأوائل أوقاتها، هذه عادته المستمرة، ولكنه أخّر أحياناً لعارض، كما قد أخّر الصلاة إلى آخر وقتها لكي يبيّن آخر الوقت لمن سأله عن
(1) رواه الترمذي 7/ 26
(2)
الموافقات 3/ 59 وما بعدها.
وقت الصلاة، ثم عاد إلى الصلاة في أول الوقت. وكإبراده بالظهر، وتأخيره لأجل الجمع في السفر.
وحكم هذا النوع أن يتّبع السبب.
وهذا النوع يتصوّر في الواجبات، بأن يترك الواجب لسبب، كتركه الجمعة من أجل السفر، وتركه القيام في الفريضة لأجل المرض. ويتصوّر أيضاً في المستحبات كما في الأمثلة المتقدمة.
النوع الثاني: أن لا يتبيّن للقلة سبب، كقيام الرجل للرجل تعظيماً له، وكتقبيل اليد. فالأمر المستمرّ منه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقوم لأحد أو يقوم له أحد، ثم قد قام لجعفر بن أبي طالب لمّا قدم من الحبشة، وكان الأمر المستمرّ أن الصحابة لا يقبّلون يده، ثم قد قبّل يده ابن عمر مرة إن صحت الرواية، وقبّل يده بعض اليهود. والذي ينبغي في هذا النوع ترك القليل والتمسّك بالأمر المستمرّ. أو فعل القليل، ولكن على سبيل الندرة والقلّة، وينبغي أن لا يتمسّك بالقليل حتى يكون هو الطريقة العامة، والعادة التي يدرج عليها المسلمون، وخاصّة أهل العلم منهم.
وهذا النوع لا يتصوّر في الواجبات، لأنها لا تترك لغير سبب. وإنما يتصوّر في المستحبات، فإنْ تُرِك الواجب لغير سبب كان ذلك نسخاً.
مثال فرعي: الصلاة على الغائب في الصحيحين: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلّى، فصفّ بهم، وكبّر عليه أربع تكبيرات"(1). فإن كثيراً من المسلمين كانوا يموتون في أطراف الأرض، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي عليهم، وذلك فعله المستمرّ وقد صلّى على النجاشي.
فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية: لا يصلّى على غائب.
وقال الشافعي وأحمد في رواية: تجوز الصلاة على الغائب.
فأما الأولون فمحمل الفعل عندهم على الخصوصية، ويتأيد بما في صحيح ابن حبان من حديث عمران بن حصين:"فقاموا فصفوا خلفه، وهم لا يظنون إلاّ أن الجنازة بين يديه" وبما ورد أن الأعراض زويت له صلى الله عليه وسلم.
(1) متفق عليه (جامع الأصول 7/ 142).
وأما القائلون بالجواز، فإن قولهم بالجواز هو نوع من الجمع بين الفعل والترك، فتكون صلاته على النجاشي عندهم من النوع الثاني، وهو غير المحمول على سبب خاص.
وقد ذهب جمع من المحقّقين إلى أنه من النوع الأول الذي علم فيه سبب القلة، فقالوا إن النجاشيّ كان مسلماً بأرض الشرك، لم يصلّ عليه أحد، فيصلّى على الغائب إن كان كذلك. ذهب إلى هذا أبو داود في سننه والخطابي وابن تيمية (1). والله أعلم.
(1) نيل الأوطار 3/ 52 - 54