الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوّل التعارض بين الفعل والفعل (ويدخل فيه التعارض بين الفعل والترك)
إذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلان مختلفان بأن يفعل الشيء مرة ويتركه أو يفعل ضده، كأن يصوم يوم اثنين ويفطر في يوم اثنين آخر أو يقوم عند رؤية جنازة، ثم يقعد عند رؤية جنازة أخرى، فما موقف المجتهد إزاء ذلك؟.
إن أمام المجتهد طريقين في هذه المسألة، وقد ذهب إلى كل منهما بعض الأصوليين:
الأول: أن يقال: إن ورودهما جميعاً ليس من التعارض في شيء. فينبني عليه أن كلاً من الفعلين جائز، فيتخيّر بينهما. ووجه أن الفعل يدل على الجواز، فلا تعارض.
والثاني: أن يقال إنهما يتعارضان إذا لم يمكن الجمع بينهما، فإن علم التاريخ فإن الفعل الثاني منهما يكون ناسخاً للأول. وإن لم يعلم يرجح بينهما، وإلا تساقطا. أو يتخيّر المجتهد بينهما أو يتوقف، على ما تقدم في التعارض.
ويستدل لهذا القول بما ورد في حديث ابن عباس: "إنهم -يعني صحابة النبي صلى الله عليه وسلم- كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمره صلى الله عليه وسلم"(1).
مذاهب الأصوليين في ذلك:
1 -
ذهب القاضي الباقلاني إلى القول الأول. فرأى أن الفعلين لا يتعارضان، وأن التعارض فيهما محال. يقول في كتابه التقريب: "دخول التعارض
(1) رواه مسلم 2/ 231 والبخاري ومالك 1/ 294
في الفعلين محال، لأنه إن وقعا من شخصين، أو من شخص واحد في وقتين، أو على وجهين مختلفين، لم يكن بينهما تعارض، لأن الفعل يكون من أحد الفاعلين قربة، ويكون من الآخر معصية، ويكون من الشخص الواحد في وقت قربة، وفي وقت آخر حراماً" (1). اهـ.
وممن قال بامتناع التعارض بين الفعلين أبو الحسين البصري والقشيري، والغزالي في المستصفى، وابن الهمّام وغيرهم (2). والظاهر من كلام الجويني في البرهان إنه يميل إلى هذا القول. وقال العلائي:"هذا القول هو الذي أطبق عليه جمهور أئمة الأصول".
2 -
وذهب جمع آخر من العلماء إلى القول الثاني:
ونسبه الجويني في البرهان إلى "كثير من العلماء" قال: "وللشافعي صغو إلى ذلك"(3) يشير إلى مسلك الشافعي في اختلاف الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة صلاة الخوف. وسوف نستعرض ما قاله رضي الله عنه في موضع آخر من هذا الفصل. وقال به أبو إسحاق الشيرازي (4) ونسب الشوكاني هذا القول إلى ابن رشد. ونسبه المازري (5) إلى الجمهور. ولعلّه يعني جمهور الفقهاء، لا جمهور الأصوليين. فإن هذا المسلك أغلب على كلام الفقهاء، كما يأتي.
ووجه هذا القول، أن الأفعال لما كانت دالّة على الأحكام، كالأقوال، فإذا دلّ الفعل الأول على الوجوب مثلاً، ثم كان منه صلى الله عليه وسلم الترك، فإنه يدل على نسخ الوجوب. وكذا لو ترك على صفة يعلم منها التحريم، ثم فعل، فإنه يدل على نسخ التحريم.
(1) أبو شامة: المحقق ق 44
(2)
انظر النقول عن هؤلاء وغيرهم في المحقق من علم الأصول لأبي شامة ق 42 - 47، وفي تفصيل الإجمال للعلائي ق 45 أ، ب.
(3)
أبو شامة: المحقق ق 43 أ.
(4)
اللمع ص 35
(5)
أبو شامة: المحقق ق 46 أ.