الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنه أيضاً ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه: "أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى بمكة. وكانت بمكة بغيّ يقال لها عَنَاق، وكانت صديقته. قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أنكِحُ عناق؟ قال: فسكت عني، فنزلت {والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك} فدعاني فقرأها عليّ، وقال: لا تنكحها"(1).
السكوت عن بعض الأحكام مع بيان بعض آخر:
قد يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم واقعة، أو تحدث الواقعة أمامه، فيبيّن لها حكماً أو أحكاماً، ثم لا يذكر حكماً آخر، فهل يدل سكوته عنه على انتفائه؟.
إن الأمر في هذا ينقسم قسمين:
القسم الأول: أن يكون المسكوت عنه قد تبيّن حكمه بدليل صحيح. وفي تلك الحال لا يكون سكوت عما سكت عنه حجة على انتفائه، بل يكون إحالة منه صلى الله عليه وسلم على الدليل. قال السمعاني:"يشترط أن يكون المسكوت عنه لم تشمله أدلة الشرع، فلو كان ذكر فيها، كما لو أُتي بزانٍ فأمر بالجلد ولم يذكر المهر والعدة ونحوه، فذاك مما لا يحتج به، لأن ذلك يحال به على البيان في غير [الـ] موضع".
القسم الثاني: أن يكون مما يتوهّم ثبوته، أو يتردّد فيه، لتعارض الأدلة. فينبغي أن يكون السكوت عنه دليل انتفائه.
ولنضرب لهذه المسألة مثالين:
المثال الأول: ما في حديث يعلى بن أمية: "أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة، في جبة، بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم سكت. فجاءه الوحي .. فقال: أين السائل عن العمرة؟ أما الطيب الذي بك فاغسله، وأما الجبة فانزعها، وما كنت صانعاً في
(1) رواه أبو داود وهذا لفظه والترمذي (تفسير القرطبي 10/ 168).
حجك فاصنعه في عمرتك" (1). فقد أمره بنزع الطيب واللباس، لكنه صلى الله عليه وسلم سكت عن أمره بالفدية لما مضى قبل السؤال من استعماله بعض محظورات الإحرام، وهو الطيب واللباس، وكان المظنون أن يأمره بذلك، قياساً على حلق الشعر الذي تجب فيه الفدية بالنصّ القرآني. ولو كان عالماً لوجبت عليه الفدية. فقد يدل ذلك على سقوط الفدية عمن لبس أو تطيب جاهلاً بالتحريم.
المثال الثاني: ما في حديث أبي هريرة في قصة الأنصاري الذي وطئ في نهار رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتكفير، وسكت عن بيان حكم المرأة. فاستدل بذلك بعض الفقهاء على أن المرأة لا يجب عليها لذلك كفارة.
وقد قال السمعاني: "مجرّد السكوت لا يدل عندنا على سقوط ما عدا المذكور، كما يدل عند من يذهب إلى أن الأصل في الأشياء الإباحة. وإنما هو بحسب الحال، وقيام الدليل عليه.
ثم قال: ومراتب الاستدلال بالسكوت -يعني عند من استدل به- تختلف، فأقوى ما تكون دلالة السكوت على سقوط ما عدا المذكور، إذا كان صاحب الحادثة -يعني المستفتي- جاهلاً بأصل الحكم في الشيء، ولم يكن من أهل الاستدلال" (2). اهـ.
وجعل السمعاني من ذلك المثال الأول. فإن ذاك الأعرابيّ الذي يجهل أنّ لبس الجبة واستعمال الطيب، على المحرم، حرام، لحري أن يكون جاهلاً بحكم الفدية لو كان عليه فدية، فإن من جهل تحريم اللبس فهو بالفدية أجهل. فلما لم يذكرها صلى الله عليه وسلم له، دلّ على أنه لا فدية عليه أصلاً.
وقد عهد من النبي صلى الله عليه وسلم أنه إن عرف من حال السائل أنه يجهل بعض الأحكام التي يحتاج إليها أنه يذكرها له وإن لم يسأل عنها. فمن ذلك أن قوماً سألوه: "أنتوضأ بماء البحر؟ " فقال: "البحر هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" فأفادهم
(1) مسلم 8/ 78
(2)
البحر المحيط للزركشي 2/ 259 أ.