الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأوّل البيان بالترك
الترك وسيلة لبيان الأحكام، كالفعل:
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيّن الأحكام بفعله المجرّد من القول، أو بالفعل الذي يساعده القول، كذلك كان يبيّن الأحكام بالترك المجرّد من القول، أو بالترك الذي يساعده القول.
ما يحصل بالترك من أنواع البيان:
قد قدّمنا أن الأحكام التي كانت تبيّن بالفعل هي الواجب والمندوب والمباح. فأما التروك فإن الذي يبيَّن بها هو المحرم والمكروه والمباح.
وقد قدّمنا أيضاً أن المكروه كذلك كان يقع من النبي صلى الله عليه وسلم بيانه بالفعل إذا ظنّ تحريمه.
وكذلك هنا: قد يبيّن النبي صلى الله عليه وسلم المستحب، بتركه، إذا ظُنَّ وجوبه. ويقول الشاطبي: "المطلوب تركه بيانه بالترك، أو القول الذي يساعده الترك إن كان حراماً.
وإن كان مكروهاً فكذلك، إن كان مجهول الحكم. وإن كان مظنّة لاعتقاد التحريم وترجح بيانه بالفعل تعيّن الفعل على أقل ما يمكن وأقربه. وإن كان مظنّةً لاعتقاد الطلب، أو مظنّة لأن يثابر على فعله فبيانه بالترك جملة إن لم يكن له أصل، أو كان له أصل في الإباحة" (1).
(1) الموافقات 3/ 320
ويقول: "إن كان الفعل المندوب مظنّة لاعتقاد الوجوب، فبيانه بالترك، أو بالقول الذي يجتمع إليه الترك". اهـ.
وسواء أكانت هذه المظنّة المشار إليها ناشئة عن دليل آخر قوليّ أو فعلي يظن عمومه أو إطلاقه، أو عن غير دليل.
وإذا ورد الأمر في القرآن أو السنة القولية، أو فهم الوجوب من الفعل النبويّ، ثم ترك صلى الله عليه وسلم ذلك مطلقاً أو في حال ما أو لسبب ما، علم نسخ الأول أو تخصيصه، أو حمله على الاستحباب دون الوجوب، على ما سيأتي تفصيله في باب التعارض إن شاء الله.
وإذا فرّق النبي صلى الله عليه وسلم بين بعض العبادات وبعض، ففعل في نوع من أشياء واظب عليها، وترك تلك الأشياء في نوع آخر، فإنه يتبع في ذلك، ويكون الترك كالنص على أنه لا يفعل.
ونضرب لذلك مثالين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له للصلوات الخمس، ولكن لا يؤذّن لصلاة العيد، ولا لصلاة الخسوف، ولا لصلاة الاستسقاء.
أما صلاة العيد، ففي حديث ابن عباس:"لم يكن يؤذَّن يوم الفطر، ولا يوم الأضحى"(1). وعن ابن عباس أيضاً: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى العيد بغير أذان ولا إقامة"(2).
ومثله حديث جابر: "لا أذان يوم الفطر حين يخرج الإمام، ولا بعدما يخرج الإمام، ولا إقامة، ولا نداء، ولا شيء".
فأجمع الفقهاء (3) على أن صلاة العيد لا يؤذَّن لها ولا يقام. ويقول ابن تيمية: "ترك رسول الله للأذان في العيدين، مع وجود ما يعدّ مقتضياً، وزوال المانع، سنة، كما أن فعله سنة.
قال: "فلما أمر بالأذان في الجمعة، وصلّى العيدين بلا أذان ولا إقامة، كان
(1) البخاري 2/ 451
(2)
رواه أبو داود (الفتح 2/ 452).
(3)
ابن دقيق العيد: الإحكام 1/ 330 وقال ابن قدامة في المغني (2/ 378) أنه لا يعلم في ذلك خلافاً ممن يعتد به.
ترك الأذان فيهما سنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة، وأعداد الركعات، أو الحج".
وأما النداء لها (الصلاة جامعة)، فقد قال الشافعي:"أحب أن يأمر الإمام المؤذن أن يقول: الصلاة جامعة"(1). وقال: قال الزهري: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر في العيدين المؤذن أن يقول الصلاة جامعة".
وابن قدامة اختار الترك، وقال:"سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع" يعني ما ذكر في حديث جابر.
وأما صلاة الكسوف، فلم يكن يؤذّن لها، وإنما كان ينادي لها (الصلاة جامعة)(2) فهذه سنتها، ولا يكون لها أذان ولا إقامة، استدلالاً بالترك. وذلك مجمع عليه.
وأما صلاة الاستسقاء، فكذلك ليس لها أذان ولا إقامة، لما روى أبو هريرة، قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي، فصلّى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة"(3).
وقد قيل: ينادى لها (الصلاة جامعة) قياساً على صلاة الكسوف.
المثال الثاني: أنه ترك الجهر في بعض الركعات في المغرب والعشاء، وجهر في الركعتين الأوليين دون ما بعدهما. وجهر في صلاة الليل، ولم يجهر في صلاة النهار. فهذا دليل اختصاص الجهر بما جهر فيه، ودليل ترك الجهر في ما لم يجهر فيه.
المثال الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي على موتى المسلمين، ولكنه لم يصلّ على شهداء أُحد.
(1) الأم للشافعي 1/ 235
(2)
رواه البخاري (جامع الأصول 7/ 105).
(3)
رواه الأثرم (المغني لابن قدامة 2/ 432).
فقال مالك والشافعي وأحمد في رواية: "الشهيد لا يصلّى عليه"(1).
وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية: يصلّى عليه، إلا أن الرواية عن أحمد أن الصلاة عليه على وجه الاستحباب.
وحجة الأولين ما روى جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصلَّ عليهم"(2).
واحتجّ الحنفية بأحاديث وردت (3) أنه صلى الله عليه وسلم قد صلّى عليهم، منها مُرسَل عطاء، عند أبي داود، ومنها ما روى الحاكم عن جابر أنه صلى عليهم واحداً واحداً. ولفظه:"جيء بحمزة فصلّى عليه. ثم بالشهداء فيوضعون إلى جانب حمزة فيصلّي عليهم ثم يرفعون، ويترك حمزة، حتى صلّى على الشهداء كلهم".
(1) ابن قدامة: المغني 2/ 529
(2)
حديث جابر: متفق عليه.
(3)
انظر ابن الهمام: فتح القدير شرح الهداية 1/ 475