الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محرمة بل مكروهة. وقال ابن حجر: "الأقرب أن النياحة كانت مباحة، ثم كرهت كراهة تنزيه، ثم حرّمت"(1).
والأولى عندي أن يقال: إن بعض المكروهات ينتقل بالبيعة عليه إلى التحريم على المبايع. إذ لو كان الحكم قبل البيعة كالحكم بعدها لما أخرت البيعة إلى أن انقضت مهمتها. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع بعض أصحابه: "أن لا يسألوا الناس شيئاً" فيصح قول من قال: النياحة مكروهة لغير المبايعات. وإنما يصح هذا على قول من يجيز الإقرار على المكروه. والله أعلم.
كيفية معرفة حكم الفعل المقرّ عليه:
إن ما أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه غيره، يعيّن حكمه على الطريقة التي تقدمت في الأفعال الصريحة. فإن كان الفعل امتثالاً لإيجاب فأقرّه على صفة معينة، فإن الإقرار يدل على الإجزاء، على تلك الصفة، ومثاله:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه (2) بعد انصراف الأحزاب: لا يصلينَّ أحد منكم العصر إلّا في بني قريظة. فأدرك بعضَهم العصرُ في الطريق. فقال بعضهم: لا نصلي حتي نأتيهم. وقال بعضهم بل نصلّي ولم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنِّف واحداً منهم".
فهو دليل على أن ما فعَلوا كان سائغاً لهم. وقد اختلف في علّة هذا التقرير. وقال السهيلي: "فيه دليل على أنه لا يعاب الأخذ بالظواهر، ولا على من استنبط من النصّ معنىً يخصصه"(3).
وإن كان الفعل امتثالًا لاستحباب، دلّ على الصحة كذلك.
وإن لم يتبيّن فيه أنه امتثال نُظِر فيه، فإن كان على وجه التعبّد، دلّ على صحّة التعبّد بذلك الفعل، فإن التعبّد توقيفي، ولا يجوز التعبّد بما لم يشرع التعبّد
(1) انظر: فتح الباري 8/ 639
(2)
البخاري 7/ 408
(3)
فتح الباري 7/ 409
به، كالإختصاء مثلاً. قال سعد بن أبي وقاص:"ردَّ النبي صلى الله عليه وسلم التبتّل على عثمان بن مظعون، ولو أذن له لاختصينا"(1) وكالقيام في الشمس لله، نهى النبي صلى الله عليه وسلم (2) عنه أبا إسرائيل.
ولا يجوز حمل التعبّد المقَر عليه، من هذا النوع، على مرتبةٍ أعلى من الاستحباب.
وإن لم يكن على وجه التقرب به لله، وجب حمل الفعل على الإباحة. ومن ذلك ما أقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه من البيوع والإجارات والشركات والوكالات، والضرب في الأرض والصيد، والاحتشاش، وغير ذلك. وكأنواع المآكل التي رآهم يأكلونها. والملابس والهيئات التي كانوا يتخذونها، إلى غير ذلك.
وقد قال الزركشي في البحر المحيط: "إذا تضمّن التقرير رفع الحرج فهل يحمل على الإباحة، أو لا يقضى بكونه مباحاً أو واجباً أو مندوباً بل يتوقف فيه؟ "(3). قال: "ذهب القاضي (الباقلاني) إلى الثاني، وذهب ابن القشيري إلى الأول".
والذي اخترناه فيما ليس على وجه القربة، هو القول الأول، وهو قول القشيري. أمّا الباقلاني فقد ذهب إلى الوقف كذلك في الفعل المجرّد، وقد سبق الردّ عليه فيه، فكذلك يُرَدّ عليه مذهبه في التقرير.
ثم إذا تبيّن أن التقرير يدلّ على الجواز، فإن كان قد سُبِق بنهي عام. فإن التقرير يدل على نسخه أو تخصيصه، على ما يأتي في باب التعارض إن شاء الله.
وقد يقال: إن هذه الأشياء على الإباحة، وهي الأصل، فلو لم يرد أنه صلى الله عليه وسلم أقرّ عليها بأعيانها لحكمنا بإباحتها، فما فائدة التقرير؟.
وقد ذكرنا الجواب عن مثل هذا السؤال في باب الأفعال الصريحة (4)، فليرجع إليه.
(1) البخاري 9/ 117 ومسلم 9/ 176
(2)
البخاري 11/ 586 وأبو داود ومالك.
(3)
ق2/ 256 ب.
(4)
انظر المطلب الثالث من الفصل السادس.