الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علم من حاله صلى الله عليه وسلم، إذ كان لا يكرّر على الكفار والمشركين الإنكار في كل يوم وكل حال. وإنما قد بيّن لهم ما حصل به البيان الكافي، القاطع للعذر، وقاتلهم حتى أعطوا الجزية وهم صاغرون، فلو تركهم بعد ذلك لم يُظَنَّ أنّ الحكم قد تغيّر.
إلاّ أن هذا النوع خارج عن الإقرار الذي يحتجّ به. فإن شرطه أن يكون المَقرّ مسلماً ملتزماً، وفي المنافق خلاف. فكيف يَترك المسلمَ الملتزمَ المطيع المتّبع، يفعل المنكر، فلا ينهاه عنه.
ولو سُلِّم أن الإقرار على مثل ذلك جائز في بعض الأحوال، لوجب افتراض أن ذلك نادر (1)، خاصة وأن أصحابه صلى الله عليه وسلم أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأسرعها امتثالاً لأمر نبيّها، الذين شهدوا برسالته، وبذلوا أنفسهم لله في طاعته.
فإذا كان كذلك فالنادر لا حكم له، والحكم للأعمّ الأغلب. والله أعلم.
درجات التقرير من حيث القوة:
قد يقترن بالتقرير ما يقوّي دلالته على الموافقة والرضا. فيكون على درجات:
1 -
فأعلاه أن يقترن به الثناء على الفعل، ومدح فاعله. كقوله:"إنّ الأشعريّين إذا أرملوا في الغزو، أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة، جعلوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم"(2). ولمّا قال معاذ: "أقضي بكتاب الله، ثم بسنة رسول الله، ثم أجتهد رأيي"(3). قال صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله".
2 -
ودون ذلك أن يساعد على العمل، ويقوم فيه بدور. ومثاله قيامه صلى الله عليه وسلم مع عائشة لتنظر إلى الحبشة وهم (يزفنون)(4) في المسجد يوم العيد. فقد قام لها، وخدّها على كتفه ليسترها ويمكّنها من رؤيتهم، والنظر إلى زفنهم.
(1) انظر الآمدي: الإحكام 1/ 271
(2)
رواه مسلم 16/ 6 والبخاري.
(3)
مسند أحمد 5/ 236، 242
(4)
الزفن: الرقص.
ومثله أن يُفعل الفعلُ به هو صلى الله عليه وسلم، فيقر على ذلك. كتطييب عائشة له قبيل الإحرام، وترجيلها له وهو معتكف. وهذا النوع من التقرير، لقوته، قد يجعله البعض من الأفعال (الصريحة).
3 -
ومثل ذلك أن يستحل ما حصل من الفعل، كأكله صلى الله عليه وسلم من حصيلة رقية بن مسعود. قال صلى الله عليه وسلم:"أقسموا وأضربوا لي معكم بسهم"(1)، وصيد أبي قتادة إذ كان مع المحرمين، وصاد حمار وحش، وبقيت منه بقية فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). وعنبر أبي عبيدة أكل منه صلى الله عليه وسلم (3). وكوطئه جاريته مارية التي أهداها له المقوقس، فهو إقرار يدل على صحة تملك الكفار لرقيقهم.
4 -
ودون ذلك: أن يسكت صلى الله عليه وسلم مع الاستبشار، وإظهار علامات الرضا والقبول. فذلك حجة واضحة. لأن استبشاره لا يكون بما يخالف الشريعة. ومثاله حديث عبد الله بن مغفل قال:"أصبت جراباً من شحم يوم خيبر. قال: فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً. قال فالتفتُّ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسماً"(4).
ومثله أيضاً تبسّمه لما اشتكت إليه امرأة رفاعة القرظي زوجها، وقالت:"وإنما معه مثل هدبة الثوب"(5). فذلك إقرار يدل على جواز التصريح بمثل ذلك في معرض الدعوى.
ومن هذا النوع عند الشافعية، ما ورد عن عائشة أنها قالت:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه. فقال: ألم تري أن مُجَزِّزاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض؟ "(6).
وفي هذا المثال للحنفية بحث يأتي ذكره إن شاء الله.
(1) مسند أحمد 3/ 83
(2)
مسلم 13/ 87
(3)
مسلم 8/ 110
(4)
مسلم 12/ 102 والبخاري.
(5)
مسلم 10/ 2 والبخاري.
(6)
مسلم 10/ 40 والبخاري.
وقد يظهر النبي صلى الله عليه وسلم الاستبشار أحياناً مع من تبيّن إصرارهم على الفحش. ويكون ذلك منه نوعاً من السياسة، ولا يكون رضاً بما هم عليه من سوء الحال. ومثال هذا ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام -وفي رواية قالت عائشة: فلم أنشب أن سمعت ضحكه معه- قلت: يا رسول الله، قلتَ الذي قلتَ، ثم ألنت له الكلام؟ قال: أيْ عائشة، إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه".
أما مع المسلم المنقاد للشرائع، فإن الاستبشار لا يكون بما يخالف ظاهره الحق.
5 -
ودون ذلك أن يسكت سكوتاً مجرداً، لا يظهر رضا ولا كراهة. وهذا النوع حجة أيضاً، لأنه الأصل في التقرير وقد بينا أدلة حجيته.
6 -
ودون ذلك أن يسكت مع إظهار الانزعاج، أو الضيق والتبرّم، وكل ما يدلّ على عدم الرضا.
وفي هذا النوع يقع التعارض بين دلالة سكوته على الجواز وانتفاء الحرج، ودلالة انزعاجه وتبرّمه على الكراهة. فوقع فيه الخلاف أهو إقرار أم إنكار. وقد رأى السبكي دلالة السكوت على الجواز بعدم ظهور الاستبشار منه صلى الله عليه وسلم. يقول السبكي:"سكوته صلى الله عليه وسلم على الفعل، ولو غير مستبشر، دليل الجواز للفاعل"(1). وهذا منه شامل للحالتين الخامسة والسادسة.
وعندي أن القول بأن إظهار الانزعاج والضيق دليل الكراهة، هو المستقيم. لأن البيان يتم بكل ما يحصل به التبيين، فإذا أظهر صلى الله عليه وسلم الكراهة بإعراضه وإظهاره الانزعاج، كان ذلك بياناً، وحصل للمشاهدين تبيُّن غرضه صلى الله عليه وسلم في ذلك.
فلا يكون هذا النوع إقراراً، بل هو إنكار.
والدليل على ذلك أمران:
(1) جمع الجوامع 2/ 95
الأول: ما تقدم ذكره في مبحث السكوت، أنه صلى الله عليه وسلم كان يُسأل أحياناً، فيعرض عن السائل، ويسكت عنه، إنكاراً لسؤاله. ومن ذلك إعراضه عمن سأل عن الحج أفي كل عام هو؟ بدليل أنه لما أكثر عليه السائل صرح له بإنكاره للسؤال. فدلّ على أنه لما سكت معرضاً عنه أولاً، كان يريد بيان الكراهة.
الثاني: ما قدمنا في مبحث الإشارة، من أن الإشارة تكون بياناً، إذا قصد بها إفهام المخاطب أمراً. فكذلك هنا.
ومن ذلك عندي ما ورد عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم سمع زمّارة راعٍ فوضع أصبعيه في أذنيه. يعني لئلا يسمعها.
ومن قال إن ذلك لا يمنع القول بالإباحة، فهو خلاف الظاهر من فعله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال تقي الدين النبهاني في قصّة الراعي: "هذا لا يعتبر إنكاراً على الراعي بل يعتبر سكوتاً عنه، وهو دليل على جواز الزمّارة، وجواز سماعها"(1).
وهذا القول منه إن عنى بالجواز فيه ما يشمل المكروه، فإن الخلاف لفظي فلا نلتفت إليه في هذا الموضع. وإن عنى به المباح، فهو مردود، فإن وضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعيه في أذنيه ليس لكراهة طبيعة، كأكل الضب، وإنما هي كراهة شرعيّة، وذلك ظاهر.
(1) الشخصية الإسلامية 3/ 97