الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحرير محل النزاع:
1 -
لا نزاع في أن الفعلين لا يتعارضان بالنظر إلى حقيقتهما، لأن كل فعل منهما يقع في زمان خاص، وشرط التعارض التساوي في الزمن بين المتضادين، فإذا فعل في وقت ثم ترك في وقت آخر، لم يكن ذلك تعارضاً.
وكما أن الذوات لا تتعارض، فكذلك الأفعال، لأنها أكوان وجودية. ويقول أبو الحسين البصري:"الأفعال إنما تتنافى إذا كانت متضادة، وكان محلها واحداً ووقتها واحداً. ويستحيل أن يوجد الفعل وضده في وقت واحد، في محل واحد، فإذن يستحيل وجود أفعال متعارضة. أما الفعلان الضدّان في وقتين فليسا متعارضين بأنفسهما"(1).
2 -
ولا نزاع أيضاً في أن الفعل إن كان بياناً لمجمل، أنه يحلّ محلّ القول. فإذا فعل بعد ذلك ما يعارضه، يحتمل أن يكون الفعل الثاني ناسخاً للأول، وذلك إن لم يكن الجمع بينهما.
ويقول الشوكاني: "إن وقعت الأفعال بيانات للأقوال فقد تتعارض في الصورة، ولكن التعارض في الحقيقة راجع إلى المبيّنات من الأقوال، لا إلى بيانها من الأفعال، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "صلّوا كما رأيتموني أصلي" فإن آخر الفعلين ينسخ الأول كآخر القولين"(2). اهـ.
ومما يمكن التمثيل به للأفعال البيانية المتعارضية صور صلاة الخوف. فقد وردت روايات تقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها على أربع وعشرين صفة، يثبت منها بحسب علم الاصطلاح ستة عشرة صفة (3). وقد مال الشافعي إلى الأخذ بالمتأخر منها، وهذا يحمل على معنى نسخ المتقدم منها بالمتأخر. ووجهه أن فعله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف بيان لما في القرآن.
3 -
ولا نزاع أيضاً أن الفعل إذا دلّ دليل خاص على أن المراد دوامه وتكراره
(1) المعتمد 1/ 388
(2)
إرشاد الفحول ص 39
(3)
إرشاد الفحول ص 39
في المستقبل في حقه صلى الله عليه وسلم، ودلّ دليل خاص على أن المراد تأسي الأمة به في ذلك الفعل، أنه يجري فيه التعارض أيضاً لتنزّله منزلة القول. ويقول الباقلاني:"لا يمتنع أن يُستدَلّ بفعله صلى الله عليه وسلم على نسخ حكم ثبت، وهو أن يعلم بدليلٍ أن ما وقع من فعله صلى الله عليه وسلم المراد دوام فعله، فيحل ذلك محل القول الذي يقتضي دوام التعبّد بالفعل في المستقبل. فكما يصحّ دخول النسخ في حكم قولٍ هذه حاله، فكذلك يصح نسخ حكم فعل حلّ محله"(1).
ويعلم أن المراد دوام الفعل وتكرره في المستقبل إذا علم ارتباطه بسبب متكررٍ (2)، كصوم الاثنين مثلاً، وصلاة الضحى.
4 -
وواضح أيضاً أنه ليس من قبيل تعارض الفعلين اختلاف النقلة في الفعل الواحد إذا نقلوه على وجهين فأكثر. فإن هذا خارج عن مسألتنا، بل هو من قبيل التعارض في الرواية، فيجري الترجيح بين الرواة بالثقة والضبط، وغيرها، أو بالترجيح بين الصور المرويّة أنفسها.
ومثاله صلاة الخسوف، فإن مسلماً روى فيها، في كل ركعة ثلاثة ركوعات، ورُوي كذلك في كل ركعة أربعة ركوعات. وقال ابن تيمية:
"هذا ضعّفه حذّاق أهل العلم، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ الكسوف إلاّ مرة، يوم مات ابنه ابراهيم، وقد تواتر أنه إنما ركع ركوعين"(3). اهـ.
وقد عقد الغزالي في المنخول (4) لاختلاف النقلة في الفعل الواحد مسألة. ونقل فيها عن الشافعي أنه يُتلقّى من نقلهم للصورتين جواز الآمرين. واختار الغزالي أن ذلك من تعارض النقلة، فيجري الترجيح، ولا يدلّ اختلافهم على جواز الأمرين. وبيّن أن ما نقل عن الشافعي إنما قاله في صلاة الخوف وكان ذلك منه ترجيحاً لإحدى الروايتين لقربها من أبّهة الصلاة.
(1) أبو شامة: المحقق ق 44 أ.
(2)
تيسير التحرير 3/ 147
(3)
الفتاوى الكبرى 18/ 17، 18 وانظر مسألة عدد ركوعات صلاة الكسوف في فتح الباري 2/ 532
(4)
ص 227.
5 -
ولا نزاع أيضاً أن ما كان من الأفعال لا دلالة له على الأحكام أصلاً، فإنه لا يقع فيه التعارض كالأفعال الجبليّة الاضطرارية، كالتنفس، وأصل الأكل والشرب. وكذلك الأفعال التي ثبت اختصاصه بها صلى الله عليه وسلم، لا تتعارض في حقنا، وقد تتعارض في حقه صلى الله عليه وسلم.
فالذي فيه اختلاف ونزاع، إنما هو الأفعال المجرّدة المطلقة، وهي التي سبق أن عقدنا لها فصلاً في الباب الأول.
وقد حكى أبو نصر القشيري عن الباقلاني، تحديدَ ما فيه الخلاف، فقال:"أما الأفعال المطلقة، التي لم تقع موقع البيان من الرسول، وهي التي يتوقف فيها الواقفية، فلا يتحقق فيها تعارض، فإن الأفعال لا صيغ لها"(1). اهـ.
فهذا موضع النزاع.
وقد بيّن المازَري موضع النزاع، وذكر ما يجري فيه الخلاف، وذلك حيث يقول:
"إن قدّرنا تعدّي حكمه صلى الله عليه وسلم إلينا، صار من ناحية تعدّي الحكم إلينا، إما وجوباً أو ندباً، على الخلاف في ذلك، يتصوّر فيه التعارض، وينزل الفعل منزلة القول المشتمل على المعاني. فإذا نقل عنه صلى الله عليه وسلم فعلان متعارضان، ولم يتصوّر فيهما طَرْقُ التأويل (يعني الجمع) فإن أحدهما يكون ناسخاً للآخر، فيُتَطَلّب التاريخ، حتى يعلم الآخِر، فيكون هو الناسخ. هذا مذهب الجمهور. ورأى القاضي (الباقلاني) أن النسخ هنا لم تدْعُ ضرورة إليه، كما دعت في الأقوال. لأن الفعل مقصور على فاعله ولا يتعداه. وليس كالصيغ المشتملة على معان متضادة. فإذا وجدنا فعلين متعارضين، حملناهما على التجويز والإباحة، وقلنا: القصد بيان جواز كل واحد من الفعلين"(2).
(1) أبو شامة: المحقق ق 44 أ. الزركشي: البحر المحيط 2/ 253 ب.
(2)
انظر هذا النص في المحقق لأبي شامة 46 أ، وعنه نقلناه. وانظره أيضاً في تفصيل الإجمال للعلائي ق 46 أ، وفي البحر المحيط للزركشي 2/ 254 ب.