الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحافظ العلائي (1):
تفصيل حكم هذه الصور يتضح بجعلها على أربعة أقطاب، بحسب تكرر الفعل أو التأسّي به [أو عدم أحدهما]، أو عدمهما.
القُطبُ الأوَّل
أن لا يدل دليل على وجوب تكرار الفعل في حقه صلى الله عليه وسلم، ولا على وجوب تأسّي الأمة به فيه.
ويتضمن خمس عشرة صورة: لأنه إما أن يكون القول خاصّاً به، أو خاصاً بنا، أو عامّاً لنا وله. وعلى الأقسام الثلاثة: إما أن يعلم تقدم الفعل، أو تقدم القول، أو يجهل التاريخ. وفي حالتي التقدم: إما أن يتعقّب الآخر أو يتراخى.
1 -
الصورة الأولى: أن يتقدم الفعل. ويكون القول خاصاً به، متصلاً بالفعل، من غير تراخ.
2 -
والثانية: أن يكون كذلك، إلاّ أنه متراخ عن الفعل.
ومثاله في الصورتين: أن يفعل صلى الله عليه وسلم فعلاً، ثم يقول: إما على الفور أو على التراخي: لا يجوز لي مثل هذا الفعل في مثل ذلك الوقت.
ففي هاتين الصورتين لا تعارض بين القول والفعل أصلاً لا في حقه، ولا في
(1) تفصيل الإجمال ق 56 ب - 64 ب.
حق الأمة، أما في حقه صلى الله عليه وسلم فلأن القول لم يرفع حكم ما تقدم من الفعل في الماضي ولا في المستقبل. لأن الماضي لا يرتفع، والفرض أن الفعل غير مقتضٍ للتكرار بالنسبة إليه. وأما في حق الأمة فظاهر، لأنه ليس لأحد من القول والفعل تعلّق بهم.
3، 4 الصورتان الثالثة الرابعة: أن يتقدم هذا الفعل ويكون القول (1) خاصاً بالأمة إما متعقباً، أو على التراخي. مثل أن يفعل صلى الله عليه وسلم فعلاً، ثم يقول: لا يجوز لكم هذا الفعل.
ففي هاتين الصورتين أيضاً لا تعارض بينهما، لأن الفعل لم يقم دليل خاص على تأسي الأمة به فيه. فكان مختصاً به. والقول خاص بالأمة، فلا تعارض. هكذا صرح به جماعة منهم الآمدي وابن الحاجب.
فإن قيل: لا يلزم عن عدم قيام الدليل على التأسّي به في هذا الفعل الخاص أن يكون مختصاً به، بل يكتفى بالأدلة العامة على التأسّي به مطلقاً.
قلت: لو اعتبر ذلك لزم منه النسخ، والتخصيص أولى منه. فلذلك قلنا أن الفعل يكون خاصاً به صلى الله عليه وسلم.
5، 6 الصورتان الخامسة والسادسة: أن يتقدم الفعل، ويكون القول بعده، عاماً له وللأمة إما متعقباً، أو على التراخي.
فقال الآمدي وغيره لا معارضة بينهما أيضاً: أما بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم فلما تقدم فيما إذا كان القول خاصاً به. وأما بالنسبة إلينا فلأن فعله غير متعلق بنا على ما وقع به الفرض.
وفصل ابن الحاجب بين أن يكون العموم بطريق التنصيص أو بطريق الظهور. فإن كان على وجه النصوصية، مثل أن يفعل فعلاً، ثم يقول: حرم علي وعلى أمتي هذا الفعل في مثل ذلك الوقت، فلا تعارض أصلاً، لا في حقه ولا في
(1) في الأصل: الفعل. وهو خطأ، يظهر أنه من الناسخ، كما لا يخفى.
حقنا، لعدم وجوب تكرار الفعل، ولعدم وجوب التأسيّ به. وإن كان العموم على وجه الظهور، قال: فبالنسبة إلينا لا تعارض أيضاً، لما تقدم، أما بالنسبة إليه فيكون فعله مخصصاً لذلك القول.
ولقائل أن يقول:
إما أن لا يمكن الجمع بين القول والفعل بطريق بناء العام على الخاص، أو يمكن ذلك. فإن أمكن، بأن يكون الفعل مختصاً يتضمن صورة القول كما تقدم في النهي عن استقبال القبلة عند الحاجة، واستدبارها مطلقاً، مع الفعل في البيوت، فها هنا الذي ينبغي أن يكون الراجح ما قدمناه من تخصيص القول فيما عدا صورة الفعل، إعمالاً للأدلة العامة، الدالة على التأسيّ به صلى الله عليه وسلم. وأصل هذا القطب مدار على أنه لم يدل دليل على تكرر الفعل في حقه ولا تأسيّ الأمة به. ولا يلزم من عدم قيام الدليل أن يكون الفعل خاصاً به، ولا بدّ، بل ربما يكون مما تتأسىّ به الأمة فيه عملاً بالأدلة العامة، لا سيما والأصل عدم اختصاصه صلى الله عليه وسلم. فتخصيص القول به، كذا الفعل بالنسبة إليه وإلى الأمة أولى لما قدمناه.
وإن لم يمكن الجمع بينهما على وجه تخصيص العموم فعدم التعارض هنا أولى بأن يكون الفعل الأول كان خاصاً به، والقول بعده نسخ ذلك في حقه، ولا تعلق للأمة به. وهذا أولى من أن يكون حكم الأمة حكمه في ذلك الفعل. ونجعل القول ناسخاً له في حقه وحقهم.
7 -
الصورة السابعة: أن يتقدم القول، ويكون خاصاً به صلى الله عليه وسلم، ثم يتعقبه الفعل بخلافه، من غير تراخ.
فها هنا الفعل ناسخ لمقتضى القول عند من يجوز النسخ قبل التمكن من مقتضى الامتثال، وهم جمهور أهل السنة. وأما من لم يجوز ذلك، كالمعتزلة وأبي بكر الصيرفي من أصحابنا، فقالوا: لا يتصور وجود مثل هذا الفعل، مع العهد إن لم نجوز المعاصي على النبي صلى الله عليه وسلم.
8 -
الصورة الثامنة: أن يتقدم القول، ويكون خاصاً به، ثم يقع الفعل بعده متراخياً عنه، إما بعد العمل بمقتضى القول، أو بعد التمكن من العمل به.
فالفعل ناسخ لمقتضى القول وفاقاً. وهو ظاهر على رأي من لم يجوز صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وأما من جوز ذلك فكذلك أيضاً، لأن صدور المعصية خلاف الظاهر. والنسخ وإن كان خلاف الأصل الكثير أكثر منه (1). وهو متفق عليه، أعني النسخ، بخلاف صدور الذنب من الأنبياء. وما في النسخ من الخلاف فهو غير معتد به. فكان الحمل على النسخ أولى من الحمل على صدور الذنب. هذا هو اللائق بمذهب من يجوز المعاصي وإن لم نطلع (2) عليه من حيث النقل.
9، 10 - الصورتان التاسعة والعاشرة: أن يتقدم القول ويكون خاصاً بنا، مثل: حرم عليكم كذا، ثم يفعله هو إما على الفور، أو التراخي.
فقال الآمدي وابن الحاجب والأرموي في (نهاية الوصول): لا تعارض بينهما في هذه الصورة، بل الفعل مختص به، والقول مختص بنا، إذ لا دليل على وجوب التأسّي. وذكر القرافي أن الفعل أيضاً شأنه أن تتأسى الأمة به فيه، يعني بالأدلة العامة التي تقتضي ذلك. فالأولون لا يعتبرون إلا دلالة دليل خاص في هذا الفعل، بخلاف القرافي، فإنه يعتبر الأدلة العامة، فيراهما متعارضين. لكن قول الأولين هنا أقوى، لأن اعتبار القول الخاص بنا، وتقديمه، أولى من تقديم الأدلة العامة.
11، 12 - الصورتان الحادية عشرة والثانية عشرة: أن يكون القول عاماً لنا وله صلى الله عليه وسلم ثم يقع الفعل بعده، إما متعقباً، أو على التراخي.
فقالوا: لا معارضة هنا أيضاً، كما تقدم مثله فيما إذا علم تقدم الفعل.
وفرق ابن الحاجب بين العام بطريق النصوصية، والعام بطريق الظهور، كما تقدم. وفيه من البحث ما تقدم. واحتمال التخصيص حيث يمكن.
وذكر بعضهم أن الفعل متى وقع بعد التمكن من مقتضى القول، فلا يكون
(1) يعني: أكثر من المعصية على القول بتجويزها.
(2)
في الأصل: يطلع.
ناسخاً إلا أن يدل دليل على وجوب تكرار مقتضى القول، فحينئذٍ يكون الفعل ناسخاً لتكرار مقتضى القول. وهذا يجيء في كل موضع قيل فيه بالنسخ، فيما سيأتي من أمثاله. ونحن قد مثلنا ذلك بأن يقول صلى الله عليه وسلم: حرم علينا كذا، ثم يفعله، فإن التحريم يقتضي التأبيد.
والحقّ في هذا الموضع أن فعله صلى الله عليه وسلم ناسخ لمقتضى القول في حقه وإن كان العموم على وجه الظهور. وأما في حق الأمة فهو أما مقتضٍ للتخصيص، أو للخصوصية به، كما تقدم في الفصل الثاني.
13، 14، 15 - الصورة الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة: أن يجهل التاريخ من التقدم والتأخر، ويكون القول أما خاصاً به، أو بنا، أو عاماً لنا وله.
ففي هذه الصور الثلاث الأقوال الثلاثة المتقدمة في الفصل الثالث.
والمختار تقديم القول عند بعضهم، لاحتمال أن يكون الفعل متقدماً والقول متأخراً. وعند ذلك لا يتحقق التعارض بينهما لما سبق. ويحتمل أن يقال، فيما إذا كان القول خاصاً به، بتقديم الفعل إعمالاً للأدلة العامة الدالة على التأسّي به صلى الله عليه وسلم فإنها أرجح حينئذٍ من القول بالوقف، وهو الذي اختاره ابن الحاجب كما سيأتي إن شاء الله تعالى.