الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: "وهذا الذي قاله القاضي فيه نظر عندي، إلاّ على رأي الذاهبين إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم يقتضي الإباحة. وليس القاضي من القائلين بذلك، بل مذهبه الوقف". اهـ.
وقال العلائي في مفتتح كلامه في مسألة تعارض الفعلين: "اعلم أن الكلام في ذلك مبني على مسألة فعله صلى الله عليه وسلم ماذا يدل عليه في حق الأمة، والكلام في تلك المسألة مشهور طويل".
قولنا في المسألة:
لقد نقلت كلام المازري بتمامه لأني رأيته حدّد سبب الخلاف، وركّز عليه الضوء، فإن من قال بأن الفعل المجرّد يدل على الوجوب في حقنا، فإن الفعل يكون عنده شبيهاً بالقول، ولا حاجة إلى ورود دليل خاص يدل على التكرار في حقّه صلى الله عليه وسلم ولا على وجوب التأسّي.
وأيضاً على قول المساواة، يتصوّر استفادة الوجوب في حقنا إن علمنا أنه صلى الله عليه وسلم فعل الفعل على سبيل الوجوب.
أما على قول الاستحباب، فيحتمل القول بالتعارض، لأن الاستحباب حكم شرعي يتصوّر نسخه، بأن نعلم أنه صلى الله عليه وسلم ترك ذلك الفعل على سبيل استباحة الترك، فيدلّ ذلك على زوال الاستحباب السابق. ويحتمل أن يقال: الترك للمستحب لا حرج فيه، فلا يدل على عدم الاستحباب.
أما على القول بأن الفعل المجرّد لا يدلّ على أكثر من الإباحة فيتأتى القول بالتخيير بين الفعلين، وعدم التعارض بينهما.
وأما ما استشكله المازَري من قول الباقلاني بالوقف في الأفعال المجرّدة، وقوله هنا باستفادة جواز الأمرين، فلم نر لفظ الباقلاني بحروفه لنعلم هل صرح بدلالته على الجواز في حقنا، فإن قال بذلك تناقض. ولعله إنما قال بالجواز في حقه صلى الله عليه وسلم خاصة. أما الغزالي، من القائلين بالوقف، فقد صرّح بامتناع
التعارض بين الفعلين، ولكن ذكر أنه لا يستفاد من كلا الفعلين حكم بالنسبة إلينا.
فالحاصل إننا لا نذهب إلى أيٍّ من القولين بكماله، بل نذهب إلى التفصيل. فبناء على ما تقدم اختياره من قول المساواة في الفعل المجرّد، وأن الفعل المجرّد قد يدل على الوجوب أو الاستحباب نقول: إن الذي نختاره عند اختلاف الفعلين ما يلي، ولم نجد أحداً فضله كما نذكر هنا، وبالله التوفيق:
أولاً: إن كان الفعل بياناً أو امتثالًا لدالٍّ على الوجوب فعارضه فعل آخر، ولم يمكن الجمع بينهما، يعدّ الثاني ناسخاً للأول في حق الجميع (1) إن علم التاريخ، وإلاّ صير إلى الترجيح بينهما.
ثانياً: وكذلك في الفعل المجرّد، إن قامت قرينة على أن الفعل الأول يدل على الوجوب في حقنا.
ثالثاً: فإن حكمنا على الفعل الأول أنه للاستحباب، فالظاهر أن الترك له لا يعارض فعله ولا يبطل حكمه، ما لم يعلم أن الترك كان على سبيل ترك المباح، أو يتبين أنه صلى الله عليه وسلم أراد إحداث طريقة جديدة في المسألة غير ما كان عليه أولاً.
رابعاً: فإن لم يكن كذلك، وحكمنا بأن الفعل الأول دالّ على الإباحة، فإن الفعل الثاني لا يعارضه، بل يتخيّر بينهما، ما لم يعلم بقرينة أن الفعل الثاني وقع على سبيل الوجوب أو الاستحباب فيعمل به وتترك دلالة الأول.
فالأمر في هذه المسألة، كما ترى، مبني على حكمنا على الفعل ماذا يدل عليه لو لم يعارضه الفعل الآخر، وعلى حكمنا على الفعل الثاني ماذا يدل عليه لو لم يعارض الفعل الأول، فإذا علم ذلك، جرى بينهما القانون السابق بيانه.
ونحن نضرب أمثلة يتبيّن منها المقصود.
(1) نقل عن الكرخي أنه يكون ناسخاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم وحده. انظر تيسير التحرير 3/ 148.
المثال الأول: مسألة سجود السهو أهو قبل السلام أم بعده؟ (1).
فيه حديث عبد الله بن بُحَيْنَة: ومعناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي التشهد فسجد قبل السلام (2).
وروي عن الزهري: آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام.
وحديث عبد الله بن مسعود: ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم صلى خمساً فسجد بعدما سلم (3).
وحديث ذي اليدين وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم سجد بعد السلام.
مذهب الشافعي أن سجود السهو كله قبل السلام.
ومدهب أبي حنيفة: سجود السهو كله بعد السلام، ويجوز قبل السلام.
ومذهب مالك: ما كان من نقصٍ فقبل السلام. وما كان من زيادة فبعد السلام.
ومذهب أحمد: السجود كله قبل السلام، إلا أن يكون ورد في مثله عن السلام.
قول الشافعي مبني على قاعدة التعارض، وإن المتأخر ناسخ للمتقدم. والمتأخر هو السجود قبل السلام، بدلالة قول الزهري.
وقول الحنفية مبني على أحاديث قولية في صحتها نظر.
وقول مالك ذهب فيه مذهب الجمع بين الفعلين.
وكذلك مذهب أحمد، أما جعله الأصل السجود قبل السلام، فمن جهة الترجيح، فإنه رجح بكون السجود من شأن الصلاة وإنه تتميم لها، فكأنه جزء من أجزائها.
(1) انظر الخلاف والاستدلال في هذا الفرع: المغني لابن قدامة 2/ 21 فتح الباري 3/ 92 وما بعدها.
(2)
البخاري 3/ 92
(3)
البخاري 3/ 96
ولم ينقل ابن حجر، على كثرة ما نقل من كلام العلماء وخلافهم، قولاً بالتخيير، إلاّ عن البيهقي.
فظاهر من هذا أن بعض هؤلاء الفقهاء ذهبوا إلى الطريقة الثانية في الأفعال المجردة المختلفة، وهي طريقة التعارض، ويجوز أن يحمل مسلكهم هذا على أن سجود السهو فعل بياني، فيتأتى فيه التعارض على كلا المذهبين الأصوليين في المسألة.
المثال الثاني: القيام للجنازة (1):
فيه حديث علي: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم للجنازة، ثم قعد"(2).
الظاهر أن قيامه أولاً للاستحباب، لمخالفته العادة، ولتعبير الصحابي بلام التعليل. وفيه احتمال أنه قام لسبب.
ليس هذا الفعل بيانيّاً، ولا دلّ على قصد الدوام عليه في المستقبل دليل.
وقد ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أن استحباب القيام منسوخ بفعله صلى الله عليه وسلم. ووجه النسخ أنهما متعارضان، ويرجع إلى ما قلناه في قسم المستحب من أنه صلى الله عليه وسلم قد يقصد أن يكون الترك مزيلاً لحكم السنة السابقة. ويتأيّد بفعلِ عليٍّ، إذ أمر الذين قاموا للجنازة أن يقعدوا، وذكر هذا الحديث.
وذهب أحمد إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز، قال: إن قام لم أعِبْهُ، وإن جلس فلا بأس. وهذا أقرب إلى طريقة الأصوليين.
ونحن إنما نتعرّض للمسألة الفرعيّة من حيث التمثيل بها للمسألة الأصولية. ونحيل بباقي الكلام فيها إلى كتب الفروع، وشروح الأحاديث. والله أعلم.
المثال الثالث: حديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يعزل لأهله نفقة سنتهم من أموال بني النضير"(3).
(1) انظر لهذه المسألة الفرعية فتح الباري 2/ 181، المغني لابن قدامة 2/ 479، ونيل الأوطار 4/ 82
(2)
رواه مسلم.
(3)
رواه البخاري 6/ 93، ومسلم 12/ 70، والترمذي 5/ 382