الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكماً لم يسألوا عنه، وهو حكم الميتة، لما أن جهلهم جواز الطهارة بمائه يدل بالأولى على جهلهم إباحة ميتته، وهم يحتاجون إلى معرفة ذلك.
فإن كان السائل ممن له حظ من العلم، وكان له بصر بالأدلة والأحكام، فيمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سكت عما سكت عنه، لا لانتفائه، وإنما تركه ثقة بفهم السائل، فهو يجيبه عما يخفى عليه، ويترك إجابته عما يثق بفهمه له. وعلى هذا يحمل سكوته عن ذكر الكفارة في شأن امرأة الأنصاري الذي وطئ في نهار رمضان. فإن كونه من الأنصار، يقتضي حرصه على تعلّم الدين، ولا يخفى عليه أن أحكام الرجال والنساء سواء في ما يتعلق بالمفطرات.
وقد ذهب الأكثرون إلى أن الكفارة تجب في هذه المسألة على المرأة كما تجب على الرجل، فهو قول مالك وأبي حنيفة ورواية عن أحمد. والرواية الأخرى عنه أنه لا كفارة على المرأة. قال ابن قدامة:"ووجه ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر المرأة بذلك مع علمه بوقوعه منها"(1).
أما في مسألة من لَبِس ما يحرم عليه في إحرامه جاهلاً، فقد ذهب عطاء والثوري وإسحاق وابن المنذر إلى أنه لا فدية عليه. وهو المشهور في مذهب أحمد.
وذهب مالك والليث والثوري وأبو حنيفة إلى أن عليه الفدية بكل حال (2).
المطلب الثاني السكوت لمانع
قدمنا في المطلب السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يسكت عن الإجابة عن الحكم الشرعي في المسألة لعدم وجود ذلك الحكم. فأما إن كان الحكم ثابتاً فالأصل أن يجيب عن السؤال، لأن ذلك من البيان الذي أرسل به.
(1) القواطع ق 86 أ، وقد فرق إلكيا الطبري أيضاً بين الحالتين اللتين نقلناهما عن السمعاني ونقله عن الطبري أبو شامة (المحقق ق 43 أ) وأقره. ونقله الزركشي في البحر (2/ 359) وأقرّه كذلك.
(2)
المغني 3/ 133
وقد يمنع من الإجابة مانع.
والموانع مختلفة (1).
1 -
منها: أن يقف عن الجواب لمهلة النظر. فقد كان له حق الاجتهاد في القضايا والنوازل، كما تقدم اختياره وإثباته، في موضعه. والمجتهد يحتاج أحياناً إلى وقت للنظر والتدبر.
2 -
ومنها: أن يكون السائل قد سأل عما لم يقع. فيترك جوابه لعدم الحاجة إلى البيان حينئذٍ، ولإشعار السائل بتكلّفه وتعمّقه، وفي ذلك من الكراهة ما فيه.
3 -
ومنها: أن يخاف غائلة الفتوى، من ترتب شرٍّ أعظم من الإمساك عنها، فيترك الجواب ترجيحاً لدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما. ويمكن أن يحتجّ لهذا النوع، بتركه صلى الله عليه وسلم الأمر بنقض الكعبة لحداث عهد قومه بالكفر.
4 -
ومنها: أن يكون عقل السائل، أو عقل بعض السامعين، لا يحتمل الجواب، فيسكت عن جوابه لئلا يكون الجواب فتنة له. قال البخاري:"باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس فيقعوا في أشد منه". ثم روى حديث عائشة في تركه صلى الله عليه وسلم نقض الكعبة.
ولعلّ من هذا ما ورد عن ابن عباس: "أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أرى الليلة في المنام ظُلّةً تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم، فالمستكثر والمستقلّ. وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر بعدك فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل له فعلاً. قال أبو بكر: "يا رسول الله بأبي أنت والله لتَدَعَنِّي فَلأعْبُرَنّها". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعبرها". فعبرها أبو بكر، ثم قال: "أخبرني يا رسول الله، بأبي أنتَ، أصبتُ أم أخطأتُ؟ "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً"، قال: "فوالله يا رسول الله لتحدثَنِّي ما الذي أخطأت؟ "، قال: "لا تقسم" (2).
(1) ذكر ابن القيم (إعلام الموقعين 4/ 157) جملة منها وذكر من ذلك الشاطبي في الموافقات 1/ 47 و4/ 313، 319 أشياء.
(2)
مسلم 17/ 93 ورواه البخاري.
ووجه كونه من هذا الباب أنه لو حدَّث الحاضرين بما يكون من شأن عثمان رضي الله عنه، وهو الرجل الثالث في الرؤيا، لربما كان لبعض السامعين فتنة، وحصل من ذلك مفسدة. قال ابن حجر في الفتح قال النووي:"لعل المفسدة في ذل ما علمه من سبب انقطاع السبب بعثمان، وهو قتله وتلك الحروب والفتن المرتبة عليه، فكره ذكرها خوف شيوعها"(1).
5 -
ومنها: أن يترك الكلام أصلاً مع شخص ما، عقوبةً له على فعلٍ فعَله. فقد نهى عن كلام الثلاثة الذين خُلّفوا، حتى قال أحدهم، وهو كعب بن مالك:"كنت أشَبَّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلِّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه يردّ السلام؟ "(2).
6 -
ومنها: أن يعدل في الجواب إلى ما هو أنفع للسائل مما سأل عنه.
ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: {يسئلونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس والحج} (3) سألوا ما بال الهلال يبدو صغيراً ثم يكبر تم يعود كما كان فأجيبوا ببيان المصلحة في ذلك.
7 -
ومنها: أن يسأله السائل عمّا ليس من شأن النبوة والرسالة، فيترك جوابه إشعاراً له بما ينبغي له أن يسأل عنه. ويمكن حمل سكوته عن الإجابة عن سؤالهم على هذا الوجه، فإن تعليم الفلَك ليس من شأن الرسالة.
8 -
ومنها: أن يكون السائل متلبّسا بمعصية ظاهرة هي أكبر من التي يسأل عنها وأهم منها. فمن ذلك أن يكون السائل كافراً معانداً، أو منافقاً فاجراً. وقد قال الله تعالى لنبيه:{فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا} (4).
9 -
ومنها: سكوته على سبيل الإنكار للسؤال نفسه، لأنه مما لا ينبغي. فالله
(1) المغني 3/ 501
(2)
مسلم 15/ 28 والبخاري 12/ 431
(3)
سورة البقرة: آية 189
(4)
سورة النجم: آية 29