الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثّاني حجية التقرير
اختلفت آراء الأصوليين في اعتبار الإقرار حجة.
1 -
فأكثر الأصوليين يذكرونه قسماً من أقسام السنة النبوية. ونقل ابن حجر (1) الاتفاق على الاحتجاج به.
2 -
وقال بعضهم ليس التقرير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة في الشرع.
قال البخاري شارح البزدوي: "ذهبت طائفة إلى أن تقريره صلى الله عليه وسلم لا يدل على الجواز والنسخ"(2).
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بحجية التقرير بأدلة، منها:
أولاً: أن الله تعالى أرسل نبيه بشيراً ونذيراً، يأمر المعروف وينهى عن المنكر. قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ
…
يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} (3) فلو سكت عما يفعل أمامه مما يخالف الشرع، لم يكن ناهياً عن المنكر (4).
ثائياً: العصمة. فإن النهي عن المنكر واجب، وتركه معصية، يتنزه عنها أهل التقى من أفراد الأمة، فأولى أن يتنزه عنها محمد صلى الله عليه وسلم وهو أول المسلمين وأتقاهم صلى الله عليه وسلم. ولو جاز له ترك إنكار المنكر لجاز ذلك لأمته (5).
(1) فتح الباري 3/ 323
(2)
3/ 869
(3)
سورة الأعراف: آية 157
(4)
أبو شامة: المحقق 39 ب. ابن حزم: الإحكام ص 436
(5)
الجصاص: أصوله ق 72 أ.
وقد قيل عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنه قال:"الساكت عن الحق شيطان أخرس"(1).
وقد اعترض على هذا الدليل، بناء على قول من يجوّز على النبي صلى الله عليه وسلم الصغائر، بأنه إنما يلزم أن لو قدّر الفعل المقرّ عليه محرماً لكان كبيرة، أو لكان صغيرة وتكرر أمامه صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره. ذكر الغزالي (2): هذا الاعتراض عن قوم.
وأجاب عنه، بالجزم بجواز التمسّك بالإقرار، حتى على قول من يجوز الصغيرة، محتجّاً بأن الصحابة كانوا يفهمون من التقرير الجواز، دون توقف.
وقال الآمدي: "التقرير على غير الجائز، وإن كان من الصغائر الجائزة على النبي صلى الله عليه وسلم عند قوم، إلا أنه في غاية البعد، لا سيما في ما يتعلق ببيان الأحكام الشرعية"(3).
أقول: وقد قدّمت في فصل حجية الأفعال من الباب الأول، أن احتمال الصغائر لا يمنع الاحتجاج بالأفعال، فليرجع إليه.
وقد يقال أيضاً: إن إنكار المنكر باللسان غير واجب في جميع الأحوال، بل يجوز تركه في بعض الأحوال، مع الإنكار بالقلب. بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"(4). فإذا كان كذلك فلِمَ لا يقال إن بعض ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إنكاره يحتمل أنه تركه لعدم استطاعته تغييره، وقد أنكره بقلبه.
ويجاب عن هذا السؤال، بأن الإقرار الذي نعتبره حجة، هو إقراره صلى الله عليه وسلم لأتباعه من المسلمين، وهم منصاعون لأمره، والظاهر أن قوله يؤثر في المخطئ منهم حتى يترك خطأه. فلا يصدق عليه أنه في مثل هذه الحال غير مستطيع الإنكار
(1) حديث: "الساكت عن الحق شيطان أخرس" نقله البخاري شارح البزدوي (3/ 869) ولم نجده في كتب الحديث.
(2)
المنخول ص 230، المستصفى 2/ 52، المحقق ق 39 ب.
(3)
الإحكام في أصول الأحكام 1/ 270
(4)
مسلم وأحمد وأربعة (الفتح الكبير).
باليد أو باللسان، وخاصّة بعد أن نزل عليه قوله تعالى:{والله يعصمك من الناس} .
ثالثاً: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز باتفاق، ومن فعل ما يخالف الشرع فإما أن يكون فعله جاهلاً بالمخالفة، أو عالماً بها. فإن كان جاهلاً بها وجب البيان له ليستدرك ما فات إن كان مما يستدرك، كالإنكار على المسيء صلاته في الحديث المشهور، ولئلا يعود إلى المخالفة في المستقبل. وإن كان عالماً فلئلا يتوهم نسخ الشرع المخالف، وثبوت عدم التحريم (1).
رابعاً: ما علم من حال الصحابة في وقائع كثيرة، أنهم كانوا يحتجون بتقريره صلى الله عليه وسلم على الجواز (2). ونذكر من ذلك بعضها، على سبيل التمثيل لا الحصر.
فمنها: "أن أنس بن مالك سئل وهو غاد إلى عرفة: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يهلّ منا المهل فلا ينكر عليه، ويكبّر منا المكبر فلا ينكر عليه"(3).
ومنها: قول أبي بن كعب: "الصلاة في الثوب الواحد سنة، كنا نفعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعاب علينا"(4).
ومنها: قول ابن عباس: "أقبلت راكباً على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحد"(5).
ومنها: ما قال البخاري: "باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة. وروى بسنده: "أن جابر بن عبد الله حلف بالله إن ابن صياد الدجال. فقال له:
(1) انظر البخاري: شرح أصول البزدوي 3/ 269 وانظر أيضاً: تيسير التحرير 3/ 128
(2)
الغزالي: المنخول 230. المستصفى 2/ 52
(3)
البخاري 3/ 510
(4)
رواه أحمد 5/ 141
(5)
حديث ابن عباس: البخاري 1/ 571