الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما أخذوا ذلك من أدلة أخرى غير تلك الواقعة. وحملوا ردّه صلى الله عليه وسلم لماعزٍ في المرة الأولى والثانية والثالثة على محامل مختلفة، ككونه لزيادة التثبّت. فلم يجعلوا تركه للحكم في تلك الواقعة مانعاً من الحكم في نظائرها من الوقائع (1).
وقال الحنفية والحنابلة: إن ردّه صلى الله عليه وسلم لماعز قبل الرابعة دليل أن الرابعة هي الموجبة، ولا حكم في ما قبلها. إذ لو كان فيها حكم لما جاز تركه.
أما إن حملنا كلام ابن عقيل في التناظر بين الواقعتين على ما يشمل التساوي في المانع من الحكم، بالإضافة إلى التساوي في أصل الحادثة، فإن كلامه يكون صواباً. وتطبيق هذا على المسائل الفرعية الثلاث التي ذكرناها واضح. وقد أمر مالك الخليفة المنصور بترك نقض الكعبة لئلا يتخذه الملوك لعبة. وذلك مانع مشابه للمانع الذي لأجله تركها النبي صلى الله عليه وسلم على حالها. والله أعلم.
والحاصل أن الوقائع التي يمكن أن يترك صلى الله عليه وسلم الحكم فيها أحياناً نوعان:
1 -
ما سبق النص عليه، أو يمكن تبين حكمه بقياس جليّ.
2 -
ما منع من الحكم فيه مانع يتضمن مفسدة أعظم من ترك بيان الحكم فيه. فإن لم يكن كذلك فإن ترك الحكم فيه ممتنع. ويمتنع علينا الحكم فيه.
وهذا كما هو بيّن، قيد في قياس العلة، فلا يجوز أن يكون فرع القياس مما كان حادثاً في زمنه صلى الله عليه وسلم وترك ذلك الحكم فيه. والله أعلم.
المطلب الرابع ترك الاستفصال عند الإفتاء ومدى دلالته على عموم الحكم
عبّر الشافعي عن هذه المسألة بقوله: "ترك الاستفصال، في مقام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال"(2). وهو أول من ذكر هذه القاعدة في ما نعلم.
(1) انظر: نيل الأوطار 7/ 103 المغني لابن قدامة 8/ 192
(2)
القرافي: الفروق 2/ 87 - 90، ابن اللحام الحنبلي: القواعد ص 234
وإيضاحها أن يقال: إذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم واقعة من الوقائع، وكانت الواقعة المسؤول عنها مما يحتمل أن تقع على صورتين فأكثر، فأجاب عنها دون استفصال عن الصورة الواقعة، فإن الحكم المذكور في الجواب النبويّ، يكون صادقاً على كلتا الصورتين. ولو أراد أن يكون حكمه صادقاً على إحداهما دون الأخرى وجب عليه إما أن يستفصل، ويحكم على المتحصّل بالاستفصال، وإما أن يقيد في كلامه فيقول: إن كان كذا فالحكم كذا.
وهذه قاعدة في الإفتاء معروفة، ومثالها أن يقول المستفتي في الميراث: رجل ترك زوجة وأماً وأباً. فينبغي للمفتي أن يسال: هل ترك ولداً أو ولد ابن؟ لأن الحكم يختلف في حال وجوده عن حال عدمه. وكذلك يسأل: هل ترك من الإخوة اثنين فأكثر؟ ولكن لا حاجة إلى أن يسأل: هل ترك عمّاً أو خالاً، إذ أن ذلك لا يؤثر في قسمة التركة.
ولإيضاح قاعدة التنزيل هذه بالمثال، نذكر حديث أم سلمة في المستحاضة:"أن امرأة كانت تهراق الدماءَ. فاستفتت أم سلمة لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفرْ بثوب، ثم لتصلّ"(1).
احتجّ به الحنفية على أن المستحاضة إن كان لها عادة معلومة فإنها تجلسها، وسواء أكان دمها متميّزاً أم لا، فلا اعتبار بالتمييز. ووجه إلغاء التمييز عندهم البناء على هذه القاعدة التي ذكرنا. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفتاها بما ذكر في الحديث، ولم يستفصل منها، أمميزة هي أم لا، فدلّ ذلك أن الأمرين سواء، وأن المعتبر العادة. فنزلوا تركه صلى الله عليه وسلم للاستفصال منزلة العموم في القول، فكأنه قال: لتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، في حال تمييزها إن كانت مميّزة، وفي غير تلك الحال إن لم تكن عليها.
(1) رواه مالك وأبو داود والنسائي. وانظر (جامع الأصول 8/ 335).
والشافعية والمالكية والحنابلة المخالفون للحنفية في هذا الفرع، احتجّوا بحديث عائشة في استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها:"إن دم الحيض دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي"(1).
استدلوا به على أن المستحاضة إن كانت مميزة فالمعتبر التمييز، ولا اعتبار حينئذٍ بالعادة. واستدلالهم مبني على القاعدة المذكورة نفسها. ووجه بنائها عليها لا يخفى (2).
هذا ولما كان من المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بالواقعة -ربما من مصدر آخر غير سؤال السائل- على أي الوجهين وقعت، فقد أنكر بعض العلماء صحة هذه القاعدة، لأن استفصاله عن ذلك يكون لغواً لا فائدة فيه.
فبالنظر إلى هذا الاحتمال حرّر الأبياري (3) هذه القاعدة كما يلي:
أولاً: إن كان الاستفتاء عن أمر لم يقع أصلًا، وإنما يراد إيقاعه في المستقبل، فإن ترك الاستفصال ينزّل منزلة العموم، كما لو سألته امرأة غير مستحاضة عن الحكم لو استحيضت.
أقول: ومثله ما لو سئل عن المسألة بصفة عامة، كما لو قيل له: ما تقول في امرأة استحيضت
…
إلخ.
ثانياً: أن يتبيّن لنا اطّلاعه صلى الله عليه وسلم على صفة الحال، ونعلم بطريق ما، أن الخبر كان قد وصله، فلا ريب أن تركه الاستفصال لا يدل على العموم، لأن الاستفصال لا داعي إليه.
ثالثاً: أن يثبت لنا، بطريق ما، أن القضية التي وقعت أفتى فيها صلى الله عليه وسلم وهي
(1) رواه النسائي (جامع الأصول 8/ 227).
(2)
انظر الخلاف في هذا الفرع في المغني لابن قدامة 1/ 311
(3)
البحر المحيط للزركشي 2/ 53 أ.