الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما تكلّم الأصوليون في الهم والعزم منه صلى الله عليه وسلم. ونحن نجعل القول فيهما واحداً لتقاربهما وعسر الانفصال بينهما، حتى إن بعض أهل اللغة قال: الهم هو العزم (1).
وهذان النوعان هما فعلان نفسيان، ومن هنا دخلا في موضوع هذه الرسالة.
هل الهمّ بالشيء حجة
؟:
إذا همّ النبي صلى الله عليه وسلم بالشيء ولم يفعله، ففي دلالته على مشروعية فعل ذلك الشيء قولان:
الأول: أن ما همّ به حجة. وقد جعله الزركشي أحد أقسام السنة. قال: ولهذا استحبّ الشافعي في الجديد للخطيب في الاستسقاء مع تحويل الرداء تنكيسَه، بجعل أعلاه أسفلَه، محتجاً بـ "أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى وعليه خميصة له سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها. فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه"(2).
قال الشافعي بعد أن ذكر الحديث: "وبهذا أقول، فنأمر الإمام أن ينكّس رداءَه فيجعل أعلاه أسفله، ويزيد مع تنكيسه فيجعل شقّه الذي على منكبه الأيمن على منكبه الأيسر، والذي على منكبه الأيسر على منكبه الأيمن، فيكون قد جاء بما أراد رسول الله من نكسه، وبما فعل من تحويله"(3). اهـ.
وقال الشوكاني: قال الشافعي ومن تابعه إنه يستحب الإتيان بما همّ به صلى الله عليه وسلم. ولهذا جعل أصحاب الشافعي الهمّ من جملة أقسام السنة، وقالوا يقدم القول ثم الفعل ثم التقرير ثم الهمّ.
الثاني: أن الهمّ ليس بحجة. وممن ذهب إلى ذلك الشوكاني. قال: "الحق أن الهمّ ليس من أقسام السنة" قال: "لأنه مجرّد خطور شيء على البال من دون تنجيز له. وليس ذلك مما آتانا الرسول، ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسيّ به فيه"(4)
(1) فتح الباري 11/ 328
(2)
البحر المحيط 2/ 259 ب.
(3)
الذي ذكره الزركشي معنى ما قال الشافعي، ونحن نقلنا النص من (الأم) للشافعي 1/ 251
(4)
إرشاد الفحول ص 41
ونحن نقول وبالله التوفيق: إن الهمّ بالشيء أمر نفسي لا يظهر لنا إلاّ بإحدى طريقتين" إما أن يخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يقدم على الفعل فيحول بينه وبينه حائل فيتركه.
الطريق الأولى: أن يخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم.
وحينئذٍ فلا يخلو من أحوال.
1 -
إما أن يخبرنا به على سبيل الزجر عن عمل معين. فيدلّ على تحريم ذلك العلم أو كراهته، بدلالة القول، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام. ثم آمر رجلاً فيؤمّ الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار"(1).
دلّ ذلك على وجوب حضورها، وتحريم التخلف عنها، وهي دلالة قولية، من حيث إنه بيّن بقوله ما يفيد أن ما فعلوه هو ذنب.
وكذلك حديث: "إنه صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مجخّاً على باب فسطاط. فقال: لعلّه يريد أن يلمّ بها؟ قالوا: نعم. قال: لقد هممت أن ألعنه لعناً يدخل معه قبره، كيف يستخدمه وهو لا يحلّ له، أم كيف يورثه وهو لا يحلّ له؟ ".
أما المختلف فيه فهو أن يدل الهمّ على مثل ما يدل عليه الفعل لو فعله. فهل يجوز تحريق المتخلفين، ولعن من أراد أن يفعل كفعل صاحب تلك المرأة؟ هذا موضع الإشكال. وهذا النوع يلتحق من هذه الجهة بالهم المجرّد الآتي ذكره.
2 -
وأما أن يخبرنا بهمّه مبيّناً لنا أنه ترك ما همّ به وعدل عنه لأنه تبيّن له أن الداعي له غير صحيح، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، حتى ذكر لي أن فارس والروم يغيلون فلا يضر ذلك أولادهم"(2).
والحكم في هذا النوع واضح.
3 -
وإما أن يخبرنا بأنه ترك الفعل اكتفاء بغيره من الدلالات. ولا شكّ في
(1) حديث أبي هريرة رواه البخاري 2/ 152
(2)
الغيلة وطء المرضعة. والحديث رواه مسلم ومالك.
حجية هذا النوع. ومنه حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر فأعهد، أن يقول قائلون أو يتمنى المتمّون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون"(1).
4 -
وإما أن يخبرنا بأنه همّ بالشيء ولم يفعله، دون زيادة. وهو الهمّ المجرّد. ومثاله حديث:"لقد هممت أن لا أتّهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي"(2).
قولنا في ذلك: الظاهر أن الهمّ لا يدلّ على مثل ما يدل عليه الفعل لو فعله. فما قال الشوكاني من أن: "الهمّ ليس تنجيزاً للفعل" صحيح، وينبغي أن يعتمد. فهو صلى الله عليه وسلم لم يُخْرِج ما همّ به إلى حيّز الوجود، فيحتمل أن تكون هناك موانع شرعية منعته من ذلك، أو أنه صلى الله عليه وسلم وجَد السبب أقلّ من أن يكون كافياً لبناء الحكم عليه.
فلا يتمّ القول بأن الهمّ المجرد أقسام من أقسم السنة.
وعليه فإن استدلال البخاريّ وابن حجر وابن العربي بحديث الهمّ بتحريق المتخلفين على بعض الأحكام، فيه نظر، ومن ذلك ما بوّب عليه البخاريّ:(باب إخراج أهل الرَيب من البيوت بعد المعرفة)(3) وما قال ابن حجر: "فيه من الفوائد جواز العقوبة بالمال
…
وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرة
…
واستدل به ابن العربي وغيره على مشروعية قتل تارك الصلاة متهاوناً بها
…
وفيه الرخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة لأجل إخراج من يستخفي في بيته ويتركها، ولا بعد أن تلحقه في ذلك الجمعة
…
واستدل به ابن العربي على جواز إعدام محل المعصية كما هو مذهب مالك" (4).
وأما تبويب البخاري على الحديث في موضع آخر: "باب وجوب صلاة
(1) حديث عائشة: "لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر
…
" انفرد به البخاري.
(2)
حديث: "لقد هممت أن لا أتهب
…
" رواه أحمد: المسند، تحقيق أحمد شاكر 4/ 240 وقال: "قال في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح، ونسبه ابن حجر في التلخيص إلى ابن حبان في صحيحه".
(3)
فتح الباري 13/ 215
(4)
المصدر نفسه 2/ 130
الجماعة" (1) فهو مأخوذ من الدلالة القولية. وهو استدلال صحيح، والنظر إنما هو في التعارض بينه وبين غيره من الأدلة.
الطريق الثانية: إن يحول بينه وبين الفعل حائل جعله يترك الفعل بعد أن عالجه. وهذا النوع هو الذي قال فيه الشافعي ما قال، واعتبره حجة. ذكر ذلك في باب صلاة الاستسقاء من (الأم) كما تقدم. فجعل قلب الرداء أعلاه أسفله سنة.
وقد أبى ذلك جمهور الفقهاء في هذا الفرع. منهم المالكية والحنابلة (2). وانفصل ابن قدامة عن دلالة الحديث باحتمال خطأ الراوي. وأنه يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذلك في جميع الأوقات لثقل الرداء.
ومن أمثلته أيضاً حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بضبٍّ محنوذ فأهوى بيده ليأكل، فقيل: أخبِروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل. فقيل: ضب. فرفع يده"(3). ففيه دلالة على جواز الإقدام على أكل ما لا يعرفه، إذا لم يظهر فيه علامة التحريم.
قولنا في ذلك: إن هذا النوع عندنا أعلى من النوع الذي قبله، لأن المانع خارجيّ، والمباشرة قد وقعت. فالقول بأنه من أقسام السنة لا يستبعد.
والتفريق بين النوعين واضح. فإن هذا النوع في حقيقته من أقسام العزم. والعزم أعلى أنواع الهمّ. وينبغي حمل كلام الشافعي على هذا النوع خاصة، خلافاً للزركشي الذي جعل مذهب الشافعي أن الهمّ مطلقاً من السنة.
ولا يعني هذا أننا نأخذ بما قال الشافعي رضي الله عنه من القول بتنكيس الرداء، وذلك لما قاله ابن قدامة، ولما ورد في الحديث:"فحوّل الناس أرديتهم". فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم، الحاضرون معه في تلك الصلاة تابعوه فتركوا ما هم به وتركه، فأولى أن يتابعه من بعدهم. ولعلّ هذا الفعل خاصة كان مطلوباً على الصفة التي فعلها هو صلى الله عليه وسلم. والله أعلى وأعلم.
(1) المصدر نفس 2/ 125
(2)
ابن قدامة: المغني 2/ 435
(3)
البخاري 9/ 542