الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأما ما علمنا حكمه في حقه بدليل، فينبغي أن يكون حكمنا فيه كحكمه. أخذاً من قاعدة المساواة في الأحكام، وقد تقدم إثباتها.
وأما ما لم نعلم حكمه في حقه صلى الله عليه وسلم، فما ظهر فيه أنه تركه تعبداً وتقرباً نحمله على الكراهة في حقه، ثم يكون الحكم في حقنا كذلك أخذاً من قاعدة المساواة، كتركه ردّ السلام على غير طهارة، حتى تيمّم (1).
وما لم يظهر فيه ذلك، نحمله على أنه من ترك المباح، كتركه السير في ناحية من الطريق، أو الجلوس في جهة من المسجد.
فعلى ما تقدم ذكره، لا فرق بين الفعل والترك في التأسيّ فيهما، وقد صرَّح الشوكانيّ بذلك فقال:"تركه صلى الله عليه وسلم للشيء كفعله له في التأسّي به فيه"(2).
ويقول الجصّاص (3)، وفيه تلخيص أحكام الترك "نقول في الترك كقولنا في الفعل. فمتى رأينا النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك فعل شيء، ولم ندر على أي وجه تركه، قلنا تركه على جهة الإباحة. وليس بواجب علينا إلا أن يثبت عندنا أنه تركه على جهة التأثُّم بفعله، فيجب علينا حينئذٍ تركه على ذلك الوجه حتى يقوم الدليل على أنه مخصص به دوننا". وفي هذا القول منه بعض النظر يعلم مما بيّناه في هذا المبحث.
وقال ابن السمعاني: "إذا ترك صلى الله عليه وسلم شيئاً وجب علينا متابعته فيه"(4) ومقصوده بالمتابعة المساواة في حكم الترك، كما تقرّر عندنا أن ذلك مراده بهذه العبارة في بحث الأفعال. وليس مقصوده أنه يجب علينا أن نترك ما ترك في جميع الأحوال.
فظاهر كلامهم التسوية بين الفعل والترك في مراتب التأسيّ.
تفريق القاضي عبد الجبار في التأسيّ بين الترك والفعل ومناقشتنا له في ذلك:
فرَّق القاضي عبد الجبار بين الترك وبين الفعل، في التأسّي بهما. فعنده أن
(1) رواه البخاري 1/ 441
(2)
إرشاد الفحول ص 42
(3)
أصول الجصاص ق 210 ب.
(4)
الزركشي: البحر المحيط 2/ 260 أ.
الفعل إذا وقع منه صلى الله عليه وسلم يتأسّى به فيه على كل حال، لأنه، لا يخلو أن يكون من أحد الأقسام المعلوم حكمها أو من المجرّد، فإن كان مجرّداً فإما أن يظهر فيه قصد القربة، فيتأسى به على وجه الندب، أو لا يظهر فيه ذلك، فيتأسّى به فيه على وجه الإباحة، أما الترك فإن كان معلوم الحكم يتأسى به على أساس ذلك الحكم، لكن إن كان مجهول الحكم فالتأسي به عند عبد الجبار غير ممكن. يقول:"أما الفعل فقد ينقل الوجه الذي عليه وقع، فيصح معه التأسّي"، ثم قال:"فأما تركه فإنما يدل بمقدمة زائدة، نحو أن نعلمه تاركاً لما جعل علامة لوجوب الفعل، فنعلم أنه ليس بواجب، أو خروجه عن كونه واجباً إذا تعمّده وقصد إليه".
ويقول في موضع آخر: "التأسّي به صلى الله عليه وسلم في الفعل أولى من الترك، لأن الترك لا يقع إلاّ على الحد الأول الذي لا تقتضيه طريقة التأسّي، فهو بمنزلة الأكل والشرب وغير ذلك، إلا بأن يكون الترك واقعاً على وجه يعلم أنه من باب الشرع"(1). اهـ.
وهو بهذا يشير إلى أن الترك يجوز أن يدل على التخصيص أو النسخ. فإن لم يكن كذلك وعلم حكمه من دليل خارجي صحّ التأسّي به. فإن لم يعلم حكمه فهو حينئذٍ من قبيل الترك الجبلي، ويكون بدرجة الفعل الجبلي الذي لا أسوة فيه، لأن حالة الترك هي الأصل بالنسبة إلى الأفعال الوجودية. ولا يجوز عند عبد الجبار إلحاق الترك بما ظهر فيه قصد القربة من الأفعال، حتى يدل على الكراهة.
وتوجيه قوله أن الفعل يظهر فيه قصد القربة من كونه مخالفاً للمعتاد، كهيئة المصلي، أو الساجد، أو الملبّي، أو الطائف، أو الساعي، مع ما يظهر من الخشوع والتضرع، ونحو ذلك. أما الترك فهو أمر مجرَّد لا يظهر للتقرّب به وجه.
والذي نرى أنه يحل الإشكال أن يقال: إن الترك إن كان عدميّاً صرفاً، فهو الذي بمنزلة الفعل الجبليّ غير الاختياري، لأنه صلى الله عليه وسلم لغفلته عن الشيء الذي ليس بحضرته، ولا داعي يدعوه لفعله، فهو خارج عن نطاق التكليف. ولذلك فلا أسوة فيه. وهو الذي نعتقد أن القاضي عبد الجبار يريده بالترك الذي لا أسوة فيه.
(1) المغني 17/ 270