الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإقرار على ما كان في الجاهلية واستمر في أول الإسلام:
إنه من المعلوم أن كثيراً من العادات الجاهلية لم تنكر من أول الإسلام، بل بدأ إلغاؤها بالتدريج، الأهمّ فالأهمّ، حتى أكمل الله دينه، وتمّ تحريم ما أراد الله تحريمه منها. ومن ذلك الخمر، والزيادة على أربع زوجات (1).
وقد قال ابن أبي هريرة: "يشترط كون التقرير بعد ثبوت الشرع، وأما ما كان يقر عليه قبل استقرار الشرع حين كان داعياً إلى الإسلام فلا"(2).
ومبنى قوله هذا أن الإقرار يدل في الأمور العادية على الإباحة الشرعية. فإن قلنا بأنه يدل على الإباحة العقلية وأن المسألة خالية عن حكم شرعي بالتحريم أو الكراهة، فلا حاجة إلى هذا الشرط، وهو الصواب. والله أعلم.
3 - الإقرار على الترك:
يدل إقرار الترك لعبادة ما على عدم وجوبها، فإن أقرّ فرداً ما على تركها، دلّ ذلك أنها ليست واجباً عينيّاً، مع احتمال أنها فرض كفاية، كما لو أقر إنساناً على ترك صلاة العيد.
وإن أقر جماعةَ بلدٍ أو قبيلة أو غير ذلك على ترك عبادة، دل على أنها ليست فرض عين ولا فرض كفاية. وقد أقر أهل البوادي على ترك إقامة الجمعات والأعياد، فدلّ ذلك عند العلماء على أنها غير واجبة عليهم.
ومن باب الإقرار على الترك ما ذكر ابن تيمية في (القواعد النورانية)(3) أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمرهم بالإتمام، فقال:"يا أهل مكة أتِمُّوا صلاتكم فإنّا قومٌ سَفْر". وأما بمنى وعرفة ومزدلفة فلم ينقل أحد أنه أمرهم بذلك. قال ابن
(1) انظر: ولي الله الدهلوي: الحجة البالغة ص 270. محمد قطب: منهج القرآن في تطوير المجتمع. محمد أبو زهرة: أصول الفقه ص 48
(2)
البحر المحيط للزركشي 2/ 257 ب.
(3)
ص 100
تيمية: "لو كان المكيّون قد قاموا فأتموا الظُّهر أربعاً، وأتموا العصر والعشاء أربعاً أربعاً، لما أهمل الصحابة نقل هذا". اهـ. وهذا يدل عنده على أنهم قصروا، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، ورجّح بهذا مذهب أهل المدينة من أن للمكيين القصر بالمناسك بعذر النسك، على مذهب الشافعي وأحمد أنهم لا يقصرون.
وعندي أن مذهب الشافعي وأحمد أصح، وذلك من حيث إن ترك النقل ليس نقلًا للترك، كما تقدم بيانه في فصل الترك.
وأيضاً فإن الشرع كان قد استقرّ على أن غير المسافر لا يقصر، وأهل مكة بالنسبة إلى المناسك ليسوا في حال سفر.
وأيضاً لما أمرهم بالإتمام أول مرة عُلِمَ الحكم، فلا يلزم تكرار البيان. والله أعلم.
تنبيه: يجب أن يفرق بين دلالة التقرير على جواز الفعل وصحته من حيث الظاهر، وبين دلالته على ذلك من حيث باطن الأمر، فإن الأول لازم للتقرير دون الثاني. وقد ورد من حديث أسماء بنت أبي بكر، قالت:"أفطرنا على على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم، ثم طلعت الشمس"(1).
وتخاصم إليه رجلان في أرض فقال: "إنكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألْحَنَ بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه
…
" الحديث.
ويشهد له أنه صلى الله عليه وسلم قُرِّب إليه لحم الضب فأراد أن يأكل منه، فقيل له: إنه لحم ضبّ، فأمسك عنه. وتقدّم مثل هذا في بحث العصمة من باب الأفعال الصريحة.
وقد قال أبو الحسين البصري: "نقل عن عبد الجبار: إذا أباح إنسان
(1) البخاري (فتح الباري ط الحلبي 5/ 102) وأبو داود.
النبي صلى الله عليه وسلم أكل طعامه، فاستباح النبي صلى الله عليه وسلم أكله، فإنه لا يدلّ على أنه مِلْكُه لا محالة، لأنه يكتفي في استباحة الأكل بظاهر اليد" (1). اهـ.
تنبيه أخر: لو تحدَّث متحدث أمامه صلى الله عليه وسلم، عن إنسان فعَل فِعْلاً أو قال قولاً، وذلك الفاعل أو القائل ممن كان قد مات، أو كان كافراً عند فعله فأسلم، أو لا يزال كافراً، أو غير ذلك، ممن لا يؤثِّر الإنكار عليه تركاً للمعصية، فإن الإنكار والبيان لا يجب. وبالتالي لا يكون الإقرار عليه حجة.
ومن هذا يتبيّن أن ما كان يَرِد في ما يحدّث الصحابة به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يحدّث بعضهم بعضاً أمامه، عمّا حصل له في الجاهلية أو لغيرهم، فلا يكون حجة لحكم شرعي. ومن ذلك إخبار سلمان الفارسي بقصة تنصره وأسره ورقّه، وما حصَل له أثناء ذلك.
(1) المعتمد 1/ 387