الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالعوامل التي نراها مؤثرة ثلاثة لا غير، وقد فصلت في الجدول التالي:
العامل الأول: .......... الترتيب الزمني ............ (3) .......... تقدم القول. تقدم الفعل. الجهل بالتاريخ
العامل الثالث: .......... أنواع القول ............... (3) .......... عامّ لنا وله. خاص به. خاص بنا
العامل السادس: ....... تكرّر مقتضى القول ....... (3) .......... قيام الدليل عليه. عدم قيام الدليل عليه
فتنحصر الصور عندنا في (18) صورة. وهي التي تفهم من كلام السبكي. هذا هو الذي يترجح عندنا في عدد صور اختلاف القول والفعل.
ولكننا سنعمد إلى ذكر الصور التي ذكرها أبو شامة، وفصّلها العلائي، وذلك بأن نضع كلام العلائي بنصّه ملحقاً بآخر هذا البحث.
وقصدنا بذلك إيضاح خلاف العلماء في هذه الأصول، وبيان مآخذهم، ولعلّ الله أن يوفق لنشر رسالته كاملة في المستقبل.
وسنكتفي بذكر كلام العلائي عن أن نفصّل القول في الصور الستين، مع أننا قد قدّمنا رأينا في كل عامل من العوامل المؤثرة في اختلاف الصور المذكورة.
أمثلة تعين على إيضاح ما تقدم
المثال الأول: حديث ابن عباس قال: "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم واحتجم وهو صائم"(1) وحديث شداد بن أوس، ورافع بن خديج وثوبان وغيرهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يحتجم، فقال:"أفطر الحاجم والمحجوم".
1 -
التاريخ: ورد أن الحديث الأول، وهو احتجام النبي صلى الله عليه وسلم، كان في حجة الوداع. ذكره الشافعي.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم" فقد كان قبل ذلك لأن شداد بن أوس قال في حديثه (2): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى رجلاً بالبقيع وهو يحتجم، وهو آخذ
(1) أحمد والبخاري (نيل الأوطار 4/ 213).
(2)
أبو داود (جامع الأصول 7/ 193).
بيدي، لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، فقال:"أفطر الحاجم والمحجوم" ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يدرك رمضان بعد حجة الوداع، فلا بدّ أن يكون قوله قبل فعله.
2 -
نوع القول: القول عام لنا وله. على سبيل الظهور.
3 -
قام الدليل على تكرر مقتضى القول، لأنه معلق بالصفة.
فعلى هذا ينبغي أن يبقى حكم القول في حق الأمة، ويكون الإفطار خصوصية له. لكن يمنع القول بالخصوصية أنه لم يخص في باب القرب بشيء من الرخص. ولذلك يحصل التعارض، ويحكم بالنسخ في حقه صلى الله عليه وسلم وحق الأمة.
وقد سلك الشوكاني مسلك الجمع، فحمل القول على الكراهة، وفيه نظر، فإنه ليس نهياً حتى يصح حمله على الكراهة وإنما هو حكم بالإفطار.
المثال الثاني: حديث أنس، وخلاصته: أن رهطاً من العرنيين غدروا براعي النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوه واستاقوا النعم، فبعث في آثارهم، فجيء بهم فسمل أعينهم، وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا.
مع حديث أنس والمغيرة: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة (1).
1 -
التاريخ: في رواية أنس أنه قال بعد أن ذكر حديث العرنيين: ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، فالفعل متقدم على القول.
2 -
القول وإن كان يبدو أنه خاص بنا، إلاّ أنه يشمله صلى الله عليه وسلم، على القول بأن المتكلم يدخل في عموم متعلق خطابه.
3 -
الدليل قائم على تكرر مقتضى القول، لأنه نهي، والنهي يقتضي دوام الترك.
فظاهر هذا أنه يكون الحكم في حقنا وحقه صلى الله عليه وسلم نسخ حكم الفعل المتقدم بالقول. والمعتمد عند الجمهور تحريم المثلة.
(1) حديث المغيرة: رواه الحاكم والطبراني. وحديث أنس رواه مسلم.
ورأى ابن الجوزي عدم التعارض، وأن ما فعله صلى الله عليه وسلم بهم من سَمْلِ الأعين ليس من المثلة، بل كان من باب القصاص، لأنهم فعلوا ذلك بالراعي. ففي رواية لمسلم وغيره عن أنس أنه قال:"إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة".
وقول ابن الجوزي هذا حسن، وهو من باب الجمع بين الحديثين بحمل كل منهما على حال. فالمثلة المنهي عنها ما كان على سبيل التشفّي، بأن نفعل بالقاتل ما لم يفعله بالمقتول. أما إن فعل بالمقتول شيئاً كقلع العين أو قطع الأذن أو غير ذلك مما فيه القصاص، جاز أن يفعل به مثله، لقوله تعالى:{والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (1).
المثال الثالث: حديث الفضل بن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح جنباً فلا صوم له.
وحديث عائشة وأم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم.
1 -
التاريخ مجهول.
2 -
القول عام لنا وله صلى الله عليه وسلم ظاهراً.
3 -
الدليل قائم على تكرر مقتضى القول، لأن الحكم معلق بشرط.
فظاهر ما تقدم حمل فعله صلى الله عليه وسلم على الخصوصية، ويعمل في حق الأمة بالقول. وقد ذهب إلى هذا قوم. وينبغي أن يردّ ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرخص له في باب القرب بشيء مما يقتضيه التعظيم، بل هو أولى بتعظيم شعائر الله، كما تقدم في فصل الخصائص من الباب الأول.
فقد حصل التعارض، والذي ينبغي حسب القانون السابق تقديم القول.
ولكن الذي ذهب إليه جمهور الفقهاء تقديم الفعل وهو يجري على أحد وجهين:
(1) سورة البقرة: آية 194
إما على سبيل ترجيح الفعل بموافقته لإشارة الآية: {حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} فإن إباحة الجماع إلى هذه الغاية يلزم منه جواز تأخير الغسل إلى ما بعدها. وهي الطريقة التى سلكها الشافعي.
وإما على سبيل نسخ القول بالفعل، وقد مال إليه الخطابي. وقواه ابن دقيق العيد (1) بدلالة الآية، فإنها تدل على إباحة إصابة الجنابة إلى آخر الليل، بعد أن كان ذلك ممنوعاً. فيظهر أن قوله: ("من أصبح جنباً فلا صوم له" كان قبل نزول الرخصة. والله أعلم.
المثال الرابع: الوضوء مما مست النار، ورد فيه حديث أبي هريرة وعائشة عند مسلم (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"توضأوا مما مست النار" وعند مسلم أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ. وقال جابر: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مست النار"(3).
1 -
ذهب بعض الفقهاء إلى عدم التعارض بين الفعل والقول في هذه المسألة. والوجه في ذلك أن القول خاص بالأمة، لقوله صلى الله عليه وسلم (توضأوا) وهو (أمر) والمخاطب لا يدخل في عموم خطابه. فعليه يكون الوضوء مما مست النار واجباً في حق الأمة لم ينسخ، وترك الوضوء مما مست النار، لأنه فعل مجرّد، يكون خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وممن ذهب إلى وجوب الوضوء مما مست النار عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري والزهري وأبو قلابة وأبو مجلز، والشوكاني نقل هذا عنهم (4) وأرجعه إلى القاعدة الأصولية، على اعتبار أن القول لم يشمله صلى الله عليه وسلم، وأن فعله صلى الله عليه وسلم حمله على الخصوصية به.
(1) نيل الأوطار 4/ 225
(2)
4/ 44
(3)
رواه الأربعة وابن حبان (نيل الأوطار 1/ 221).
(4)
(نيل الأوطار 2/ 221) ونقله الشوكاني أيضاً وابن قدامة (المغني 1/ 221) عن جملة من الصحابة منهم ابن عمر، وأبو طلحة، وأنس بن ملك، وأبو موسى، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة. والنقل عنهم في هذه المسألة مضطرب. فإن النووي ذكر أكثرهم في القائلين بعدم الوضوء مما مست النار. وانظرة شرح صحيح مسلم 4/ 441
2 -
وذهب بعض الصحابة منهم الخلفاء الراشدون، والأئمة الأربعة، إلى أنه لا يجب الوضوء مما مست النار.
وقد احتجّ لهؤلاء بحديث جابر المتقدم: "كان آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسته النار".
وهذا يدل على أنهم يرون فعله صلى الله عليه وسلم في ذلك معارضاً لقوله، ولكونه متأخراً عنه، يكون ناسخاً له.
وهذه الطريقة أصحّ مما ذهب إليه الشوكاني، فإن القول وإن كان موجّهاً إلى الأمة فإنه يشمل النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المخاطب يدخل في عموم متعلق خطابه على الأرجح، ما لم يمنع من ذلك قرينة، ولا قرينة هنا، ولأن الفعل المجرّد دالّ في حق الأمة على ما اخترناه من قول المساواة، فيثبت بذلك النسخ. وهو المعتمد. والله أعلم.