الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن تتميّز الكتابة عن القول بأمور:
منها أن الفكرة يمكن تصويرها بالكتابة، على مهل، تصويراً منضبطاً لا ينتشر ولا يضيع.
وتتميّز أيضاً عن القول بثباتها، فإن رسم الكلمات إذا نُقِش بقي على ما هو عليه، ما لم تغيِّره يد قاصدة أو عوادي الزمن. ولذلك يمكن أن يفهمه الحاضر والغائب. والموجود عند كتابته ومن يوجد بعد كتابته بعصر أو عصور.
أما القول فإنه يزول حالاً بعد النطق به، ولا بدّ إذا أريد الإعلام به مرة أخرى من تكرير الجهد في تركيبه، أو أن يستعاد من الذاكرة. ولكنه قد يتغيّر في الحافظة دون قصد. ولم يمكن اختزان القول كما هو إلاّ في عصرنا الحاضر، عند اختراع وسائل التسجيل الصوتي.
وتتميّز الكتابة، ثالثاً، بأنه يمكن ترديد النظر فيها مرة بعد أخرى، حتى يحصل بها لدى القارئ صورة تكاد تكون مطابقة للصورة الحاصلة في ذهن الكاتب.
ومن أجل ذلك كانت الكتابة واسطة اتصال مهمةً بين أفكار البشر، في دائرة أوسع من دائرة القول من حيث الزمان والمكان، وكانت ذات فاعليّةٍ أساسية في نشر الحضارة، ونقلها من مكان إلى مكان، ومن جيل إلى جيل.
وقد امتنَّ الله تعالى على البشر بتعليمهم بالقلم، وأقسم بالقلم وما يسطرون من المكتوبات، فنبّه بذلك إلى قدرها وأثرها.
المطلب الأول هل الكتابة قول أو فعل
؟
يختلف الأصوليون في التعبير عن الكتابة، فمنهم من يجعلها فعلاً من الأفعال، ومنهم من يجعلها قولاً، ومنهم من يجعلها قسيماً للقول والفعل.
فممن عبّر عنها بأنها فعل، القرافي، حيث يقول: "البيان إما بالقول أو بالفعل كالكتابة والإشارة
…
" (1).
ومنهم ابن حبان، حيث قسم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنواع، فجعل كتبه صلى الله عليه وسلم نوعاً من الأفعال، وذكر هناك (2) ما أَثَره عنه صلى الله عليه وسلم من ذلك.
وممن جعل الكتابة قولاً من الأفعال، من القدماء، القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه (العدة).
ومن المحدّثين عبد الكريم زيدان في كتابه (أصول الدعوة)، قال: الكتابة من أنواع القول (3).
وممن عبّر عن الكتابة كقسيم للقول والفعل القاضي عبد الجبار (4)، وأبو الحسين البصري (5) المعتزليان.
وقد سبق تعريفُ ابن حزم للكتابة بأنها تخطيط باليد برسوم متفق عليها تدلّ على الأصوات. ومن هنا نشأ الاختلاف في التعبير عنها:
فمن نظر إلى أن التخطيط باليد الذي هو حقيقة الكتابة، هو فعل بجارحة من الجوارح، قال إن الكتابة فعل.
ومن نظر إلى أن الكتابة أمارة على الكلام، ويفهم المراد منها بواسطة فهم ما تدلّ عليه من الكلام، قال إنها قول.
ومن نظر إلى أن الكتابة تدلّ بعبارات غير ملفوظة أصلاً، وقد تكتب ثم يطلع عليها فتفهم دون أن يتوسط ذلك تلفُّظ أصلاً، أخرجها بالنظر إلى ذلك عن أن تكون أقوالاً أو أفعالاً.
والذي نختاره أن الكتابة فعل، وليست قولاً.
(1) شرح تنقيح الفصول ص 122
(2)
صحيح ابن حبان 1/ 107
(3)
أصول الدعوة ص 453
(4)
المغني 17/ 251
(5)
المعتمد 1/ 338