الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع التعارض بين الإشارة والقول
قعّد السيوطي في ذلك قاعدة: "إذا اجتمعت الإشارة والعبارة واختلف موجبهما، قدمت الإشارة"(1).
ثم ذكر فروعاً سبعة تدخل في القاعدة، وخمسة خارجة عنها.
وهذا يدل على أنها عند الفقهاء قاعدة أغلبية.
ومن الأمثلة التي ذكرها وتدخل في القاعدة، أنْ يقول: زوَّجْتُك فلانَة هذه، ويسمّيها بغير اسمها، فإن العقد يصح على المشار إليها دون المسمّاة.
ومما وقع منه في السنة ما ورد في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده على أنفه؛ وفي نسخة إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين"(2).
فقد تعارض في هذا الحديث الإشارة -إلى الأنف- والعبارة- والجبهة. وفي المسألة (3) ثلاثة مذاهب.
المذهب الأول: ذهب أبو حنيفة، ومالك في قول، إلى أن السجود على الأنف وحده يجزئ. ولعلهما ذهبا إلى أن الجبهة والأنف عضو واحد، بدليل النطق بأحدهما والإشارة إلى الآخر، فإذا جعلا كعضو واحد أمكن أن تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر. فتطابق الإشارة العبارة. ثم متى كانا عضواً واحداً فيجزئ السجود على بعضه، إذ إن العضو الواحد يجوز السجود على بعضه كما في الأعضاء الستة الأخرى. ويحتمل أن مأخذ هذا المذهب تغليب الإشارة على العبارة.
(1) الأشباه والنظائر ص 315
(2)
البخاري 2/ 297
(3)
انظر: ابن قدامة: المغني 1/ 517، ابن دقيق العيد: الإحكام 1/ 215. ابن حجر: فتح الباري 2/ 296، نيل الأوطار 2/ 267
المذهب الثاني: ذهب أحمد في رواية، ومالك في قول، والشافعي في قول، إلى أنه يجب السجود على الجبهة والأنف كليهما. ومأخذ هذا شبيه بمأخذ المذهب السابق من أنهما كعضو واحد، ولكن لا يكتفى بأحد جزأيه عن الآخر، لأن العبارة تقتضي السجود على الوجه، والإشارة تقتضي السجود على الأنف. ولا يجوز على هذا القول جعلهما عضوين منفصلين، لأن الأعضاء تكون بذلك ثمانية، وهو خلاف الحصر الوارد في أول الحديث.
وقد رجّح ابن دقيق العيد هذا القول على القول السابق، قال: لكون الجبهة والأنف داخلين تحت الأمر، وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد من حيث العدد المذكور. يعني أنهما في التسمية والعدد يجعلان عضواً واحداً. ولكن الحكم أن يسجد عليهما جميعاً، تطبيقاً لدلالة العبارة ودلالة الإشارة.
المذهب الثالث: ذهب أحمد في رواية ثانية، وهو قول لبعض الشافعية، إلى أن السجود على الجبهة دون الأنف يجزئ، ولا يجزئ السجود على الأنف وحده.
وكأنّ مأخذ هذا القول رؤية التعارض بين العبارة والإشارة، فقدمت العبارة على الإشارة. وقد وجهه ابن دقيق العيد بأن الإشارة لا تعيِّن المراد يقيناً لتقارب ما بين الأنف والجبهة، بخلاف التعبير فهو يحدّد المراد. فيقدم.
وهذا عندي واضح جدّاً. وقد سبق أن أشرت إليه في تعارض الكتابة والإشارة، فيظهر -على قول الجمهور- أن ابن عباس لم يلاحظ الإشارة ملاحظة دقيقة. هذا على روايته (إلى أنفه)، وهي رواية مرجوحة، والثابت في أكثر النسخ من البخاري (على أنفه).
وعندي أن فهم هذه الرواية يحل الإشكال. فإن (على أنفه) لا يجوز أن تفهم على أنها تعني (إلى أنفه) فلم يعهد في اللغة تعدية (أشار) إلى المشار إليه بـ (على) وإنما تعدّى إليه بـ (إلى). ولذا ينبغي أن يقال في (على أنفه) إنها تعني أنه وضع إصبعه، أو أصابعه، على أنفه، وأطرافها متجهة إلى الجبهة. ومن المعلوم أن المشار إليه هو ما يتجه إليه رأس الإصبع، والظاهر أن الإصبع كانت متجهة برأسها إلى الجبهة، وإن كان حرفها مرتكزاً على الأنف، ولذلك قال (على أنفه)
لكن ليس ذلك إشارة إلى الأنف، بل إلى الجبهة. وبهذا يكون القول الثالث أرجح الأقوال، ويكون السجود على الأنف مع الجبهة من باب الاحتياط أو الكمال، كما قال الشافعي في الأم، ليس إلاّ، والواجب الجبهة لا غير.
وليس معنى هذا أننا نقول بتقديم العبارة على الإشارة دائماً. بل الذي نقوله هنا ما سبق أن قلناه في تعارض الإشارة مع الكتابة، فحيث كانت الإشارة مفهومة معينة للمراد يقيناً دون إبهام، فإنها تقدّم، وإلا نُظِر في الترجيح بينهما في كل مقام بحسبه.
ويعرض الإلتباس للإشارة أحياناً بسبب بعد المشار إليه، فإنّ من شاهد العضو المشار به، كالإصبع، إذا كان المشار إليه بعيداً، يصعب عليه تقدير مسقط الإتجاه. فلو كان أمامه رجال ودوابّ وغيرها. وكانت بعيدة، فأشار بأصبعه، احتمل أن يكون كل شيء من الأشياء المقابلة مراداً، وحتى لو ضمّ إلى الإشارة لفظاً، كهذا، وعطف عليه مبيناً بلفظ آخر (كهذا الرجل) فإن الإبهام لا يزايل. أما لو سمّى رجلًا منهم باسمه العلَم فإنه يتعيّن، ما لم يكن الاسم مشتركاً. وكلّما كان المشار إليه أقرب كانت الإشارة أقوى في التعيين ويقل الاحتمال، فإذا تمّ قربه وسقط رأس الإصبع على المشار إليه فلمسه، تعيّن يقيناً، إلاّ لعارض كما في الإشارة إلى الجبهة في حديث أعضاء السجود، الآنف الذكر.
هذا ويرتّب النحاة (1) ألفاظ المعارف من حيث قوة التعيين هكذا: ضمير المتكلم، ثم المخاطب، ثم العلم، ثم ضمير الغائب السالم عن إبهام، ثم المشار به والمنادى، ثم الموصول والمعرَّف بأل. والمضاف بحسب المضاف إليه.
وهذا ترتيب غير تام الضبط.
وحتى لو قلنا به فإنه لا يصحّ إطلاق القول بأن الإشارة مقدمة على العبارة، لأن النحويين قدموا عليها بعض أنواع العبارة وهي الضمائر والأعلام وأخروا عنها المعرَّف بأل والمنادى.
(1) التصريح في شرح التوضيح 1/ 95 ونقله عن ابن مالك في التسهيل.