الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني حصر الأوجه الفعليَّة للقول
تتعدّد الأوجه الفعلية للقول إذا نظر إليه من جهات مختلفة. ونحن سنحاول حَصْر تلك الجهات في ما يلي:
الجهة الأولى: إيقاع القول المعين منوطاً بزمان أو مكان أو مناسبة معيّنة، كما تقدم في الأذكار والأدعية. وقد يكون القول مطلقاً عن السبب، كسائر الأذكار والأدعية المطلقة، كقوله صلى الله عليه وسلم:"استغفروا الله. إني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة"(1).
الجهة الثانية: درجة الصوت. ومثاله ما تقدم في حديث: "ويل للأعقاب من النار".
ومثاله أيضاً ما في حديث جابر، قال (2):"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبّحكُمْ ومسّاكُمْ".
الجهة الثالثة: استعمالاته اللّغوية.
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بالعربية، ويخطب بها، ويتكلم أحياناً بلغة خاصة بقوم وفدوا عليه، ويكتب إليهم بها. كما قال لبنت سعيد بن العاص لما رجعت من الحبشة (3):"يا أم خالد هذا سَنَاهْ" و (سَنَاهْ) بلغة الحبشة بمعنى (حسن)
(1) البخاري 11/ 101 وروى مسلم بعضه 17/ 42
(2)
مسلم والنسائي (جامع الأصول 4/ 434).
(3)
البخاري 10/ 279، 303
ولعلّه صلى الله عليه وسلم إنما قال لها ذلك لأنها وُلدت بأرض الحبشة، ونشأت بها، ولعلّها كانت تفهم بها أكثر مما كانت تفهم بالعربية،، فخاطبها بما تفهم.
وقال له أبو موسى الأشعريّ (والأشعريون من اليمن): أمِنِ آمْبِرِّ آمْصوْمُ في آمْسَفَر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس من امبرّ امصوم في امسفر"(1). فلما كانت هذه لغتهم خاطبهم بها.
وكتب إلى بعض أقيال اليمن: "إلى الأقيال العباهلة، والأرواع المشابيب
…
وفي التيْعةِ شاةٌ لا مقوَّرة الألْياطِ ولا ضَناك
…
وأنطوا الثَّبِجَة. وفي السُّيوب الخُمس" (2) إلخ. وهذا غريب على لغة قريش، ولكنه لغة من كتب إليهم.
الجهة الرابعة: تصرفاته صلى الله عليه وسلم من جهة البديع والمعاني والبيان والصور التعبيرية وما أشبه ذلك. فقد كان يستعمل الإيجاز غالباً دون الإطناب والإسهاب مع الوفاء بالمقصود دون إخلال، ويأخذ بجوامع الكلم.
ولا يستعمل السجع والجناس. إلاّ أن يقع ذلك في الكلام دون تكلّف أو معاناة.
واستعماله المبالغة، في مثل قوله:"أما أبو جهم فلا يضعَ عصاه من عاتِقِه"(3).
(1) قال في جامع الأصول 7/ 261: أخرجه رزين، وقال محققه: في مجمع الزوائد: أخرجه أحمد والطبراني في الكبير ورجال أحمد ورجال الصحيح.
(2)
محمد حميد الله: الوثائق السياسية والإدارية للعهد النبوي. الوثيقة رقم 133 شرح الغريب عن المؤلف المذكور:
القيل: لقب ملوك حمير. التيعة: أدنى ما تجب فيه الزكاة وهو أربعون من الغنم، والخمس من الإبل. الضناك. الكثيرة اللحم. مقورة الألياط: مسترخية الجلود. انطوا الثبجة: أعطوا الوسط. السيوب: الركاز.
(3)
مسلم 10/ 36 ومالك في الموطأ.
واستعماله بعض ألفاظ الدعاء التي لا يراد بها أصل موضوعها، كقوله لأم سليم:"تربت يداك" وقوله عن صفية: "عقرى حلقى".
وإجابته عما لم يسأل عنه، إذا علم من حال السائل أنه يجهل ما هو بحاجة إليه، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التوضّؤ بماء البحر، فقال:"البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته"(1).
ومنها إجماله قبل البيان توطئةً له وتثبيتاً، وتنبيهاً على قيمة ما سيقال، كقوله لأبيّ:"لأعلمنّك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد"(2) ثم علّمه الفاتحة.
إلى غير ذلك مما استقرأه المتكلّمون في علم البلاغة، وفي البلاغة النبوية خاصة (3).
الجهة الخامسة: العادات الكلامية كما قالت عائشة: "ما كان صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا. كان يتكلم كلاماً فصلاً لو عدّه العادّ لأحصاه. وكان إذا تكلّم الكلمةَ أعادها ثلاثاً لتحفظ عنه".
الجهة السادسة: إغلاظ القول ولينه. فقد كان صلى الله عليه وسلم لأمته كالطبيب المعالج، يستعمل كل شيء في موضعه الذي يستحقه.
وكان ربما يُبْهِم إذا أراد الإنكار على معيّن، ويقول:"ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ " ولا يسميهم.
الجهة السابعة: بيانه صلى الله عليه وسلم للأحكام مقرونة بالتعليل والبرهنة المقنعة. كما في حديث أبي هريرة: "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ولد لي غلام
(1) رواه مالك في الموطأ 1/ 22 وأصحاب السنن.
(2)
البخاري 8/ 156 وأبو داود، وأحمد 4/ 211
(3)
انظر مثلاً: مصطفى صادق الرافعي: إعجاز القرآن والبلاغة النبوية.
أسود. فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حُمْر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنّى ذلك؟. قال: لعلّ نزعه عرق. قال: فلعلّ ابنك هذا نزعه عرق" (1).
فهو صلى الله عليه وسلم لم يخبر السائل بالحكم الشرعي مجرداً، وهو لصوق النسب به، بل جاءه بمثال مقنع، ومن واقع حال السائل.
وقالت له عائشة: حسبك من صفية كذا وكذا، تعني: قصيرة، فقال صلى الله عليه وسلم:"لقد قلتِ كلمة لو مزجتْ بماء البحر لمزَجتْهُ"(2).
ومثله قوله: "لا تجمعوا بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها، إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم".
(1) البخاري 9/ 442 ومسلم 10/ 133 وأبو داود والنسائي.
(2)
أبو داود 13/ 221 والترمذي.