الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأوّل اختلاف التقرير والقول
إذا اختلف القول والتقرير فإما أن يعلم تقدم التقرير على القول، أو يجهل المتقدم منهما، أو يعلم تأخر التقرير.
فإن علم تقدم التقرير فلا عبرة به، ويقدم القول عليه، لأن التقرير قبل ورود الشروع لا يدلّ على حكم شرعي، إذ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينكر أمراً لم يرد فيه شرع.
وإن جهل المتقدّم منهما فيحتمل أن يكون الحكم كذلك، لأن القول أقوى منه. ويحتمل أن يجري فيه التعارض.
أما إن تقدم القول، وجاء التقرير بعده مخالفاً له، فإنه يجب التخلُّص بواحد من الأوجه التالية بالترتيب:
الأول: الجمع، بحمل القول إن كان نهياً على الكراهه، وإن كان أمراً على الاستحباب. وهذا أولى الوجوه وأيسرها، لأن فيه عملاً بكلا الدليلين.
وقد قال ابن حزم: "إن كان تقدم في ذلك الشيء نهي فقط ثم رآه صلى الله عليه وسلم أو علمه فأقرّه، فإنما ذلك بيان أن النهي على سبيل الكراهة فقط، لأنه لا يحل لأحد أن يقول في شيء من الأوامر: إن هذا منسوخ، إلا ببرهان جلي. ومن قال في شيء من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله: هذا منسوخ أو مخصوص أو ليس عليه العمل، فقد قال: دعوا ما أمركم به ربكم ونبيكم ولا تعملوا به، وخذوا قولي وأطيعوني في خلاف ما أمرتم به"(1).
(1) الإحكام 1/ 484
الثاني: الحمل على الخصوصية: بأن يقال إن التقرير هذا خاص بمن قرر وحده، ولا يلتحق به غيره. وهو مقتضى ما ذهب إليه الباقلاني وسائر من قال إن حكم التقرير لا يعدى إلى غير المقرر. وقد تقدّم الرد عليه.
فلما قام الدليل على أن الناس في أحكام الشرع سواء، لم يجز الحمل على الخصوصية إلاّ أن يأتي دليل يدل على ذلك، كتخصيص أبي بردة بالتضحية بعناق، وتخصيص خزيمة بقبول شهادته وحده.
فهذا الوجه وإن قال به البعض، مردود من أساسه ما لم يأت الدليل المذكور.
وقد اختار ابن الحاجب (1) وغيره الخصوصية في ما إذا لم يتبيّن معنى يقتضي إلحاق غير المقرّر بالمقرّر. وسيأتي قريباً.
ثم حيث قيل بالخصوصية للمقرر، فهي إما على وجه التخصيص من حكم العام (أعني بيان أنه لم يرد دخوله في العامِّ أصلاً)، وإما على وجه النسخ في حقه، والأول أولى حيث أمكن، وإلاّ فيتعين النسخ.
ويتعيّن في أحوال؛ منها: أن يكون القول خاصاً بالمقرر، أو يكون المقرر قد علم دخوله في حكم العام بدليل.
الثالث: التخصيص في حق الأمة:
وذلك بأن يعلم معنى خاص في المقرر لأجله حصل الإقرار، فمن وجد فيه ذلك المعنى استثنى أيضاً من حكم العام قياساً على المقرر، بمقتضى العلة، وبدلالة الإجماع على أن الأمة في أحكام الشرع سواء (2).
(1) المختصر 2/ 151
(2)
ابن الحاجب: المختصر 2/ 151، الآمدي 2/ 484 وانظر: البحر المحيط للزركشي 2/ 147ب.
وهذا الوجه أيضاً مقدم على النسخ في حق الأمة، لأن فيه عملاً بدلالة التقرير في حيّز المعنى المشترك، وعملاً بدلالة القول في ما خرج عن ذلك.
ومن التخصيص أيضاً أن يكون القول عاماً في جنس من الأشياء، ويكون التقرير على خلاف العموم في نوع من ذلك الجنس، فيخصص العموم بالتقرير ومثاله: الأمر بأخذ الزكاة من الأموال، ثم أقرهم على ترك أخذ الزكاة من الدور والأثاث والخيل وغيرها.
الرابع: نسخ القول بالتقرير:
وسواء أكان القول في حق المقرر وحده أو كان عاماً له ولغيره، لأن حكم التقرير عام كما تقدم. فينسخ عموم القول.
ولم يرتض هذا الوجه الآمدي (1) وابن الحاجب (2) وغيرهما. ورأيا أنه إذا لم يتبيّن علة تقتضي إلحاق غير المقرر بالمقرر، أن الواجب حمل التقرير على الخصوصية بالمقرر وحده.
ونقل الزركشي (3) والعلائي: "أن كثيراً من أئمة الأصول صرحوا بأن الفعل إذا سبق تحريمه، فيتضمن تقريره نسخ ذلك التحريم"(4) قال الزركشي: "وقد نص الشافعي أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة قياماً خلفه، وهو جالس، ناسخ لأمره السابق بالقعود" وممن صرح بنسخ الأمر بالتقرير ابن حزم (5). وهو ظاهر صنع الغزالي (6).
وقد وجّه ابن الحاجب قوله، بأنه لما انتفت العلّة الجامعة امتنع قياس العلة، ولا يجوز هنا الإلحاق بنفي الفارق لأنه إنما يصح إذا علم انتفاء الفارق، لأن الاختلاف في الأحكام ثابت قطعاً، كالطاهر والحائض، والمقيم وللسافر، وهنا لم يعلم انتفاء الفارق فلا يجوز الإلحاق.
(1) الإحكام 2/ 484
(2)
المختصر 2/ 151
(3)
البحر المحيط 2/ 256 ب.
(4)
تفصيل الإجمال ق 68 ب.
(5)
الإحكام 1/ 484
(6)
المستصفى 2/ 29