الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول الإنكار وما يحصل به
أنواع الإنكار:
لما كان التقرير هو عدم الإنكار، وجب أن يُعرف ما يكون إنكاراً من الأقوال والأفعال، لئلا يظن أنه صلى الله عليه وسلم أقر شيئاً ويكون قد أنكره.
قد قالت العرب في أمثالها: "الحرُّ يُلحى والعصا للعبد" وقال الشاعر:
العبد يضرب بالعصا
…
والحر تكفيه الإشارة
فإنه لما كان الإنكار نوعاً من التعامل مع النفوس البشرية، وكان كثير منها حساساً يتأثر بأقل المؤثرات، وقد يضره القول الصريح، فإن الإنكار الخفي قد يكون أجدى فيه. وقد قال الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم:{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضُّوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم} (1) أمره تعالى بالعفو عنهم، يعني لما قد يصدر عنهم من الإساءات، وأن يستغفر لهم، ثم يكون ذلك الاستغفار لهم بعد الفعل نوعاً من الإنكار، لأنه مشعر لهم بأنهم قد فعلوا الإساءة.
والإنكار على درجات:
الأولى: وهي أعلاها: الإنكار باليد، بإيقاع القصاص أو الحد أو التعزير، فيما ورد فيه ذلك من الأفعال.
ومثله أن يُهْدر المادّة التي عملت فيها المعصية، كما في قصة خيبر (2)، أنهم
(1) سورة آل عمران: آية 159
(2)
متفق عليه (جامع الأصول 8/ 289)
طبخوا لحوم الحمر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور فأُكفئت: و"شق دنان الخمر بسكين في يده"(1).
الثانية: الإنكار بالقول الصريح، ومنه النهي عن الفعل، والإخبار بأنه ذنب أو معصية أو كبيرة أو صغيرة، ونحو ذلك من الصرائح، كقوله لعائشة لما نعتت صفية بالقصر:"لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَتْ بماء البحر لمزجته"(2) وقوله للمسيء صلاته: "ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ"
الثالثة: التكلم بما هو من لوازم الذنب والمعصية، كالاستغفار للفاعل، والعفو عنه، والتنازل عن الحق المترتب على فعله، ونحو ذلك.
الرابع: أن يتكلم بما يستلزم بطلان القول الذي سمعه. ومثال هذا النوع ما ورد في قصة سعد بن معاذ أنه قال: "لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفح". فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"تعجبون من غيرة سعد؟. والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين"(3).
فقد ظنّ البعض أن هذا إقرار على القول. وليس ذلك على إطلاقه، بل قد أقرّ الغيرة، وأنكر ما أوهمه القول من عدم الحاجة إلى البينة في ذلك. فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"لا أحد أحب إليه العذر من الله" إلزام بالبيّنة.
ومنه أنه لما خلع نعليه في الصلاة خلوا نعالهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"لم خلعتم نعالكم؟ " اعتبره ابن حزم (4) إنكاراً، واعتبره غيره استفساراً مجرّداً.
ومنه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، ثم أعطى عبد الله بن الزبير دم الحجامة ليريقه، فذهب فشرب الدم، فشعر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:"ويل لك من الناس، وويل للناس منك"(5). فهذا إنكار.
(1) رواه البيهقي (تفسير ابن كثير. ط بيروت 2/ 640).
(2)
رواه أبو داود والترمذي.
(3)
رواه البخاري 13/ 399
(4)
الإحكام ص 430
(5)
رواه الطبراني (البداية والنهاية لابن كثير 8/ 343).