الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس تقرير الله تعالى
ليس تقرير الله تعالى حجة، فإنه يملي للظالمين ويمهلهم إلى أجل لا ريب فيه، وقد يعفو ويغفر، فذلك حقه تعالى. وقال عز وجل:{ولو شاء الله ما فعلوه} (1).
وقد احتجّ الكفرة بتقرير الله لهم على ما كانوا عليه من الشرك والافتراء، فرد الله عليهم حجتهم، قال:{سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علمٍ فتخرجوه لنا إن تتبعون إلاّ الظنّ وإن أنتم إلاّ تخرُصون} (2).
ويتعيّن النظر في نوعين من تقريره تعالى، رأى بعض العلماء أنها حجة:
الئوع الأول: تقريره لما يذكره في كتابه من القضايا. فكل قضيّة ذكرت في القرآن ولم ينبه الله تعالى على بطلانها فهي قضية حق. وكل فعل أو أمر أو نهي صدر عن أحد في القرآن فهو حق إلاّ إذا نبّه على بطلانه.
والدليل لهذا النوع أمران:
1 -
أنه باستقراء آيات الكتاب وجدت العادة أنه إذا حكى أمراً لا يرضاه أو ذكر شيئاً يوهم غير المراد، فإنه يشير إلى بطلانه، أو يأتي بما يدفع الوهم وينفي الاحتمال، ومثاله قوله تعالى:{وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} -إلى قوله- {ساء ما يحكمون} (3). وقوله: {ففهّمناها سليمان وكلاً آتينا حُكماً وعلماً} (4) وقوله: {إذا جاءك المنافقون قالوا
(1) سورة الأنعام: آية 137
(2)
سورة الأنعام: آية 148
(3)
سورة الأنعام: آية 136
(4)
سورة الأنبياء: آية 79
نشهد إنك لَرسول الله والله يعلم إنك لَرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} (1).
2 -
أن الله أنزل كتابه هداية وإرشاداً وتعليماً للناس، يبيّن لهم ما شرعه الله تعالى ويحكم على الأفعال البشرية، بما يريد الله تعالى أن يكون لهم شرعاً وديناً. وقد سمّى الله كتابه فرقاناً وهدىً وبرهاناً وبياناً وتبياناً لكل شيء. فلا يناسبه أن يذكر عن أحد من الناس ما هو باطل، ثم يسكت عن التنبيه على بطلانه، فإن ذلك يفهم منه رضاه به (2).
والمقرّر عليه في القرآن قسمان:
الأول: ما كان شريعة سماوية لنبي سابق أو قولاً من أقواله أو فعلاً من أفعاله. ويدخل ذلك في مسألة شرائع من قبلنا هل هي شرع لنا؟ وهي مذكورة في كتب الأصول فلا نطيل بذكر الخلاف فيها. والذي رجحه البزدوي وغيره، أن ما كان شريعة لمن قبلنا، وثبت لنا بكتاب الله، أو ببيانٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلزمنا العمل به على أنه شريعة لنا، ما لم يعلم عندنا نسخه في شريعتنا (3). وإنما اشترط البزدوي أن يقص الله تعالى أو رسوله علينا ذلك من غير إنكار له، احتياطاً للدين، لما ثبت من تحريف أهل الكتاب (4).
وقد احتجّ بعض الفقهاء كثيراً بأشياء من هذا النوع، فمنها المهايأة (5): احتجّوا لصحتها بما في قصة هود: {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم} (6). والمهايأة: تَقَاسُم منافع الشيء المشترك بحسب الزمان أو غيره، بأن يستعمله كل من الشريكين سنةً أو شهراً مثلاً.
(1) أول سورة المنافقون.
(2)
انظر الشاطبي: الموافقات 3/ 354، 4/ 64 علي حسب الله: أصول التشريع الإسلامي ص 27، 28
(3)
أصول البزدوي بشرح البخاري 3/ 933
(4)
أصول البزدوي بشرح البخاري 3/ 936
(5)
المصدر نفسه 3/ 936
(6)
سورة القمر: آية 28
واستدلّ المالكية والشافعية والحنابلة (1) على جواز الجعالة بقول يوسف: {ولمن جاء به حِمل بعيرٍ وأنا به زعيم} (2).
واستدلّ عبد الكريم زيدان (3) بخروج موسى (خائف يترقب) على أخذ الداعي للحذر.
واستدلّ البعض (4) على إباحة صناعة التماثيل بما في قصة سليمان: {يعملون له ما يشاء من محاريبَ وتماثيلَ وجِفانٍ كالجوابِ وقُدورٍ راسيات} (5).
واستدلّ ابن عباس على السجود في سورة (ص) بفعل داود عليه السلام.
واستدلّ غيره على جواز تولي العمل لدى الكفار، وعلى جواز طلب الوظائف الرئاسية، وإدلاء الطالب بما عنده من الصفات والخصائص والخبرات، بقول يوسف:{اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} (6).
واستُدِلّ (7) بقصة الخضر في خرق السفينة -والراجح أنه نبي- على جواز تعييب ملك الغير لأجل إنقاذه من السرقة أو التلف.
ولا بدّ عند الاستدلال بمثل هذا من النظر في ما يعارضه، على الطريقة المعهودة في سائر الأدلة.
وعليه فلا يتم الاستدلال بقتل الخضر غلاماً، وإلقاء يونس في البحر عند
(1) انظر ابن قدامة: المغني 5/ 656
(2)
سورة يوسف: آية 72
(3)
أصول الدعوة ص 424
(4)
الأستاذ عبد المجيد وافي، في مجلة (الوعي الإسلامي) الكويتية، عدد 36 ص 56 وقد رددت عليه في مجلة (المجتمع) الكويتيه في العدد الصادر 24 شوال1390هـ - ص 17 وما بعدها. وقد نقل جزءاً كبيراً من مضمون هذا الرّدّ الشيخ محمد علي الصابوني في كتابه (روائع البيان في أحكام القرآن) في تفسير سورة سبأ دون أن يشير إلى مصدره، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(5)
سورة سبأ: آية 13
(6)
سورة يوسف: آية 55
(7)
ابن عبد السلام: قواعد الأحكام 1/ 79
خوف غرق السفينة، على فعل مثل ذلك، ولا على جواز صناعة التماثيل، لتحريمها في شريعتنا بالسنة النبوية.
الثاني: أن يكون المقَرّ عليه ليس شريعة سماوية، ولا قولاً أو فعلاً لنبيّ. وسواء أكان المذكور خبره مؤمناً كذي القرنين ونحوه، أو لم يكن مؤمناً.
والإقرار على هذا النوع أضعف من الإقرار على سابقه، لأن الأول لما كان في الأصل شريعة لنبي، وكان لدينا من الأدلة أمره تعالى لنبينا بالاقتداء بهدي من قبله من الأنبياء، كان ذلك دليلاً خاصاً لحجيته، أما إن لم يكن نبياً فليس لدينا من الأدلة على حجيته إلاّ ذكره في القرآن من غير إنكار.
والذي نقوله إنه حجة ما لم يعارضه ما هو أصرح منه.
وله أمثلة كثيرة ونذكر منها:
1 -
قول الذين غلبوا على جماعة أصحاب الكهف: {لنتخذنّ عليهم مسجداً} (1). وقد جاء في حقّ من فعل مثل ذلك الحديث: "أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"(2).
2 -
قصة مؤمن آل فرعون، وفيها:{يكتم إيمانه} (3) يستدَلّ بها على جواز الكتمان عند الخوف على النفس، وأفضلية الإعلان بالدعوة والصدع بها، وخاصة حيث يخشى عليها عند الكتمان من التحريف أو الضياع. يؤخذ هذا من تنويه الله بشأن هذا المؤمن وتخليده، ما قاله بعد الإعلان.
3 -
قصة سليمان، وقول ملكة سبأ:{إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة} (4).
4 -
قصة شاهد يوسف حين قال: {إن كان قميصه قُدَّ من قُبُلٍ
(1) سورة الكهف: آية 31
(2)
البخاري 7/ 188 ومسلم 5/ 11
(3)
سورة غافر: آية 28
(4)
سورة النمل: آية 34