الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث الترك المطلق والترك لسبب
إذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمراً ما، وعلمنا حكمه على الطريقة المذكورة آنفاً، فإما أن يكون الترك مطلقاً، وإما أن يكون منوطاً بسبب.
ومقتضى الترك المطلق أن يكون حكمنا كحكمه صلى الله عليه وسلم مطلقاً، أعني دون تقييد بسبب. ومثاله تركه صلى الله عليه وسلم الأكل متكئاً، ظاهر فيه أنه على وجه التقرّب، فيحمل تركه الإتكاء أثناء الأكل على ترك المكروه، وفي حقنا كذلك، مطلقاً. ومثله أنه:"لم ينتقم لنفسه"(1) و"كان لا يصافح النساء في البيعة"(2).
ومقتضى تركه صلى الله عليه وسلم لسبب أن يكون حكمنا كحكمه صلى الله عليه وسلم حال وجود السبب، فإذا زال السبب زال الحكم، ورجع الأصل.
وإيضاح ذلك بما يأتي:
أسباب الترك:
إن ما تركه صلى الله عليه وسلم مما كان مظنّة أن يفعله كثيراً ما كان يتركه لسبب قائم لولاه لفعله. وترجع تلك الأسباب إلى أنواع، منها:
النوع الأول: ترك الفعل المستحب خشية أن يفرض على الأمة. وفي حديث عائشة قالت: "إن كان صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم". ومنه أنه صلى الله عليه وسلم ترك قيام رمضان جماعة، بعد أن
(1) رواه البخاري 6/ 566 ومسلم 15/ 83 من حديث عائشة.
(2)
رواه أحمد 2/ 213 من حديث عبد الله بن عمر. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
قام بهم ليلتين أو ثلاثاً. ثم قال لهم: "إنه لم يخْفَ عليَّ مكانكم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم".
ولذلك لما زالت هذه الخشية بوفاته صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، أعاد الصحابة رضي الله عنهم فعلها في المسجد في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
النوع الثاني: ترك العمل المستحب خشية أن يظن البعض أنه واجب. وترك المباح لئلا يظنّوا أنه مستحب أو واجب.
وهذا نوع مشابه للنوع الأول وليس منه.
ومنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، استحباباً. وقد ترك ذلك يوم فتح مكة، فصلّى الصلوات كلّها بوضوء واحد. فقال عمر:"يا رسول الله فعلت اليوم شيئاً لم تكن تفعله". فقال: "عمداً فعلته يا عمر". قال الطحاوي: "يحتمل أن ذلك كان واجباً عليه ثم نسخ يوم الفتح. ويحتمل أنه كان يفعله استحباباً ثم خشي أن يظنّ وجوبه فتركه لبيان الجواز". قال ابن حجر: "وهذا أقرب"(1).
وُيسَن الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا النوع من الترك ممن يقتدى به إذا ظنَّ توهم بعض الحاضرين شيئاً من ذلك.
وقد وضَّح الشاطبي قاعدة ترك المندوبات أحياناً، ممن يقتدى به، فقال:"لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبيّة أن يواظب عليها مواظبةً يفهم الجاهل منها الوجوب، إذا كان منظوراً إليه مرموقاً، أو مظنّة لذلك، بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات، حتى يُعلم أنها غير واجبة"(2). اهـ.
النوع الثالث: الترك لأجل المشقة التي تلحق الأمة في الاقتداء بالفعل، ولو استحباباً: ومنه تركه الرمل في الأشواط الأربعة الأخيرة من الطواف. ففي حديث ابن عباس قال: "ولم يمنعه أن يرمل الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم"(3).
وينبغي أن يلاحظ في هذا المثال خاصة أنه لا يستحب الرمل في الأشواط
(1) فتح الباري 1/ 316
(2)
الموافقات 3/ 332
(3)
البخاري وأبو داود والنسائي (جامع الأصول 4/ 6).
الأربعة الأخيرة، وإن كان السبب زائلاً، لأن الشرع أثبت الطواف على هذه الصفة. كما تقدم إيضاحه.
ومن هذا النوع عند بعض الفقهاء، ترك النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم للحج من بيته بالمدينة، حتى أحرم من الميقات. فلا يدلُّ على أن الإحرام من الميقات أفضل، فهو أقل عملاً. وقد روي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم:"إتمام الحج أن تحرم به من دويرة أهلك"(1).
والراجج أنه إنما ترك الإحرام من المنزل خشية المشقة.
والمسألة خلافية (2).
ومن هذا النوع عندي أيضاً: تركه صلى الله عليه وسلم أن يغطي ركبتيه عندما جلس ودلّى رجليه في الماء (3). وذلك لما يلحق الأمة من التضييق إذا ألزموا بتغطية الفخذين حتى في حال ملابسة المياه وخوضها. ومن قال إن: "ذلك يدل على أن الفخذ ليست عورة" فليس إطلاقه هكذا مرضيّاً، بل هو في حال معينة اقتضت ذلك. بل الأولى أن يكون هذا الترك تخصيصاً لعموم الأدلة القاضية بأن "الفخذ عورة"(4).
النوع الرابع: ترك المطلوب خشية من حدوث مفسدة أعظم من بقائه. وهذا من السياسة الشرعية المقررة. ومثاله ما قاله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "لولا قومك حديث عهدهم بكفر، لنقضْتُ الكعبة، فجعلت لها بابين، باب يدخل منه الناس وباب يخرجون"(5).
وفي رواية عند مسلم: "لولا أن قومك حديث عهدهم بجاهلية لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها إلى الأرض، ولأدخلت فيها الحجر".
وبوّب عليه البخاري: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس فيقعوا في أشدَّ منه". ولما زال ذلك السبب، واستقرّ الإسلام، نفّذ
(1) تفسير القرطبي (2/ 365).
(2)
راجع (سبل السلام) للصنعاني في المواقيت وتفسير القرطبي 2/ 366 وغيرهما.
(3)
رواه البخاري 7/ 53
(4)
حديث: "الفخذ عورة" علقه البخاري عن ثلاثة من الصحابة ورواه مالك وغيره (فتح الباري ط الحلبي 2/ 24).
(5)
البخاري 1/ 224
ابن الزبير في خلافته ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من البنيان، ولما جاء الحجاج أعادها إلى ما كانت عليه.
ومثال آخر: تركه صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين مع عظم فسادهم، وقولهم كلمة الكفر، وإرجافهم، "خشية أن يقول الناس:"أن محمداً يقتل أصحابه". إذ هم في الظاهر مؤمنون، فيكون قتلهم صادّاً للناس عن الدخول في الإسلام.
النوع الخامس: الترك على سبيل العقوبة، كتركه الصلاة على المَدِين (1) وقد نسخ هذا بقوله صلى الله عليه وسلم:"من ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ".
و"لم يصل على ماعز بن مالك ولم ينه عن الصلاة عليه"(2).
وفي حديث أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى، عليه الدين، فإن حُدِّث أنه ترك وفاءً صلّى عليه، وإلاّ قال للمسلمين: صلّوا على صاحبكم. فلما فتح الله على رسوله كان يصلّي ولا يسأل عن الدين"(3).
النوع السادس: الترك لمانع شرعيّ: ومثاله قصة نومه صلى الله عليه وسلم ومن معه عن صلاة الفجر. فما استيقظوا إلاّ بعد طلوع الشمس، وقال صلى الله عليه وسلم:"من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها"(4). ومع هذا لم يبادر إلى الصلاة، بل اقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادي، وصلّوا.
فيحتمل أن الترك كان لكون الشمس في أول طلوعها وذلك مانع من فعل الصلاة. ويحتمل أن يكون لأن الواديَ به شيطان.
فعلى هذين الاحتمالين تجب المبادرة إلى الصلاة إن لم يكن مانع.
أما إن قدرنا أن التأخير لم يكن لشيء من ذلك، فالحديث يدل على جواز التأخير مطلقاً (5)، في حدود عدم المبالغة في التأخير.
(1) رواه البخاري. الفتح 4/ 474
(2)
رواه أبو داود والنسائي (جامع الأصول 7/ 159).
(3)
متفق عليه (جامع الأصول 7/ 159)
(4)
متفق عليه (الفتح الكبير).
(5)
ابن دقيق العيد: شرح العمدة 1/ 275