الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعالى قد نهى عن السؤال عن الأمور التي عفا عنها، قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها} (1) ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال.
ومن هذا النوع من السكوت سكوته صلى الله عليه وسلم عن الأقرع بن حابس، فقد تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت
…
} الآية، فقام الأقرع فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى سأله ثلاثاً. فقال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم".
10 -
ويكون السكوت أحياناً جواباً. فمن استأذن في فعل شيء، فسكت عن الإذن له، دلّ على عدم الإذن. ومن ذلك ما روى أبو هريرة، قال:"قلت يا رسول الله إني رجل شابّ، وأنا أخاف على نفسي العَنَت، ولا أجد ما أتزوج به النساء"(2). زاد في رواية (3) فأذْن لي أن أختصي- فسكت عني. ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني. ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني. ثم قلت مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا أبا هريرة، جفّ القلم بما أنت لاقٍ، فاختصِ على ذلك أو ذرْ".
قال ابن حجر: فيه (من الزوائد) جواز السكوت عن الجواب لمن يُظَنّ أنه يفهم المراد من مجرد السكوت.
المطلب الثالث ترك الحكم في حادثة هل يوجب ترك الحكم في نظيرها
؟
إذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم الحكم في حادثة، فهل لنا أن نحكم في نظيرها؟. نقل الزركشي (4) عن بعض المتكلمين أن تركه صلى الله عليه وسلم يوجب علينا ترك الحكم في نظيرها. وقالوا: هذا كرجل شجّ رجلاً شجة، فلم يحكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم، فيعلم بتركه لذلك أن لا حكم لهذه الشجّة في الشريعة.
(1) سورة المائدة 101
(2)
صحيح البخاري 9/ 120
(3)
هي رواية المحاملي. ذكرها ابن حجر في الشرح.
(4)
البحر المحيط 2/ 260 أ.
وقال بعضهم: يحتمل التوقف.
وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي: "يجوز لنا أن نحكم في نظيرها".
وقد بيّن ابن عقيل (1) وجه تجويز القاضي لذلك، وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم ربما يكون قد سكت محيلاً لنا على بيان آخر، بأن يكون قد حكم في مسألة أخرى مشابهة، ويكون سكوته من تفويضه إلى الحاضرين استخراج الحكم بالاجتهاد.
ووافق ابن عقيل على ذلك في حالة واحدة، هي عنده جائزة، وهي أن يكون له صلى الله عليه وسلم حكم في نظيرها يصحّ استخراجه من معنى نطقه. واشترط أن يكون ذلك قياساً جلياً "في قوة ألفاظ النصوص".
فإن لم يكن كذلك فلا وجه عنده لطلبنا الحكم مع إمساكه صلى الله عليه وسلم عنه.
واستدلّ بأن الحكم الذي نطلبه بالقياس أو غيره من الأدلة الاجتهادية لتلك الواقعة، إما أن يكون صلى الله عليه وسلم قد علمه، وتركه، وذلك ممتنع، لأنه من تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإما أن يكون غير عالم به. وذلك غير جائز، "إذ لو أراد الله بيانه لما طواه عن نبيه وأوقع الأمة عليه من غير طريقه"، فلا يبقى إلا أنه لا حكم في المسألة شرعيّاً، وذلك يمنع من طلب حكم شرعي لنظائر تلك الحادثة.
وعندي أن كلام القاضي أصوب. فقد ذكرنا قبل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يترك الحكم في أمر من الأمور لمانع شرعي. وقد ذكرنا تلك الموانع. فإذا علمنا ذلك المانع، وعرفنا زواله، جاز أن نحكم فيه. ومثالها نقض الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم. تركه النبي صلى الله عليه وسلم لحداثة عهدهم بالإسلام، فلمّا زال ذلك السبب، جاز أن يُفعل ذلك.
ومثاله أيضاً تركه الاستخلاف، وتركه تحديد قوم للشورى، لما حصل عنده من التنازع، فاستخلف أبو بكر عمر. وجعل عمر الأمر بعده في أهل الشورى.
وكذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم الحكم على المعترف بالزنا لأول مرة، والثانية، والثالثة. يقول الشافعية والمالكية: بأن الاعتراف بالزنا مرة واحدة موجب للحد.
(1) المسودة لابن تيمية ص 345