الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس أعماله في القضاء
إنما تعرضت لهذه النقطة لأمور، منها:
1 -
بعد اطلاعي على شيء من سيرته علمت أن القضاء قد أخذ قدرًا غير قليل من عمره فلا ينبغي إغفاله.
2 -
ما تعرض له من أجل القضاء من المحن والابتلاء.
3 -
عاب بعضهم عليه دخوله في القضاء، فعلى الباحث دفع هذه الشبهة.
4 -
إذا علمنا أنه جمع بين القضاء والتدريس والتأليف، فلم يهمل جانبًا على حساب جانب آخر، فإبراز ذلك كان منقبة أخرى للحافظ ابن حجر.
وبعد هذا أقول: إن القضاء في عهد ابن حجر كان وظيفة عالية لا تسند إلَاّ إلى قلة من العلماء البارزين المشهود لهم بالأمانة والورع فابن حجر كان ممن يشار إليه بالبنان لعلمه وشهرته، ولذلك طُلب منه الدخول في سلك القضاء.
وكان رحمه الله مصممًا على عدم الدخول في القضاء حتى إنه لم يوافق الصدر المناوي لما عرض عليه النيابة عنه (1).
وفوّض إليه الملك المؤيد القضاء بالمملكة الشامية مرارًا فأبى وأصرّ على
(1) الضوء اللامع (2/ 38).
الامتناع (1) ثم ألحّ عليه القاضي جلال الدين البلقيني (2) وكان بينهما مزيد اختصاص حتى ناب عنه، وجز ذلك إلى النيابة عن غيره (3).
فلما كان في المحرم سنة سبع وعشرين فوض إليه القضاء بالقاهرة وما يتبعها فباشر ذلك بعفة ونزاهة فلما كان في ذي القعدة من السنة صرف نفسه ثم في أول رجب من سنة ثمان وعشرين أُعيد للقضاء، واستمر إلى صفر من سنة ثلاث وثلاثين فصرف (4)، ولا زال كذلك إلى أن أخلص في الإقلاع عنه عقب صرفه في جمادي الثانية سنة اثنتين وخمسين بعد زيادة مدة قضائه على إحدى وعشرين سنة، وزهد في القضاء زهدًا تامًا لكثرة ما توالى عليه من المحن بسببه وصرّح بأنه لم تبق في بدنه شعرة تقبل اسمه (5).
أما ما يتعلق بولده بدر الدين فكان والده حريصًا على تعليمه وتهذيبه فحفظ القرآن وصلى بالناس وأسمعه الحديث على كبار المحدثين، وبلغ من حرصه أن صنف كتابه (بلوغ المرام) لأجله، واشتغل بأمر القضاء والأوقاف مساعدًا لوالده، وولي في حياة أبيه عدة وظائف، منها الإمامة بجامع طولون (6).
(1) لحظ الألحاظ (ص 330).
(2)
جلال الدين البلقيني هو عبد الرحمن بن عمر بن رسلان بن نصير البلقيني تفقه على أبيه، ولم يأخذ عن غيره كان مفرطًا في الذكاء قوي الحفظ قال ابن حجر: إنه كان من عجائب الدنيا في سرعة الفهم توفي سنة (824 هـ). إنباء الغمر (7/ 440)؛ والضوء اللامع (4/ 106)؛ والنجوم الزاهرة (14/ 237).
(3)
انظر: الذيل على رفع الإصر (ص 80)؛ والمنهل الصافي (2/ 20).
(4)
لحظ الألحاظ (ص 230). وانظر: تفاصبل العزل والإعادة في المنهل الصافي (2/ 21)؛ ومعجم الشيوخ لابن فهد (ص 73)؛ وحسن المحاضرة (2/ 174)؛ وابن حجر ودراسة مصنفاته (1/ 236).
(5)
الضوء اللامع (2/ 38). وانظر: ابن حجر ودراسة مصنفاته (1/ 235).
(6)
انظر: ابن حجر ودراسة مصنفاته (1/ 107، 108).
وقد عاب بعض العلماء عليه دخوله في القضاء وكان الأولى والأرفع له درجة عند الله وعند المسلمين أن يتنزه عنه ويشتغل بدله بالتأليف
…
إلخ.
وقد كفاني مؤونة الرد المعلقُ على لحظ الألحاظ حيث قال: كأن المصنف يريد أن يجعل جميع العلماء من المجاورين بالحرمين الشريفين مثله غير ناظرِ إلى ما يترتب على ذلك من اختلال مصالح المسلمين بتوسيد الأمور إلى غير أهلها، وابن حجر قد نفع المسلمين بقبوله القضاء مدة طويلة، ولم يمنعه ذلك من نشر العلم وكثرة التأليف. وتلامذته المبرزون وتصانيفه الممتعة شهود عدل على ذلك (1).
قلت: إن القضاء إذا دخل فيه الإنسان، وعنده علم، وحكم بين الناس بشرع الله كان هذا من أفضل ما يتقرب به إلى الله.
وإن كثيرًا ممن يتنزه عن القضاء ينظر إلى الوعيد الذي ورد فيه ولا ينظر إلى العواقب التي تترتب على ما لو تخلى عن القضاء من كان عنده أهلية لأن به تستقيم مصالح العباد والمسلمون يدفعون اليوم الثمن غاليًا بسبب تفريطهم في هذا الجانب المهم.
وكان من أثر ذلك أن أتى إلى القضاء أحمد بن أبي دواد وأمثاله، فوثقوا علاقتهم مع الأمراء حتى دسّوا عليهم مذهبهم في خلق القرآن واقتنع به الأمراء وأجبروا الناس على الاعتقاد بذلك، وحصل من الفتنة ما لا يتصور، وإلى يومنا هذا تعاني كثير من الدول الإسلامية مشاكل لا تحد بحدود بسبب التحكيم بغير شرع الله، والله المستعان.
* * *
(1) هامش لحظ الألحاظ (ص 331، 332).