الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع نشأته وطلبه للعلم
شهد العصر الذي عاش فيه ابن أبي عمر نهضة علمية كبيرة وتميز بنشاط كبير في التأليف والتدوين شمل العراق، والشام، ومصر، وخراسان، وما حولها، وغيرها، وكان لبلاد الحجاز من هذه النهضة نصيب كبير.
وفي مكة المكرمة عاش ابن أبي عمر تحت رعاية والده بجوار البيت الحرام في جو علمي صالح، وبيئة طيبة، ويظهر أن والده اعتنى بتحفيظه القرآن الكريم وأسمعه الحديث منه ومن غيره، فقد كان أبوه من رواة الحديث لكنه كان مقلًا من الرواية حتى لا يكاد يعرف أحد روى عنه غير ابنه محمد.
ونظرًا لقلة، بل وندرة ما كتب حول حياته في مكة لم أستطع أن أتبين بدقة نشأته وطلبه للعلم، لكن الذي يتأمل مشايخه يدرك أنه كان طالبًا جادًا لم يكن ليضيع فرصة السماع من الكبار وإدراكهم أمثال وكيع، وبشر ابن السري، وأبي معاوية وغيرهم، ممن سيأتي.
المطلب الخامس رحلته
لم تكن همة العدني رحمه الله لتقصر عن الرحلة إلى البلاد المجاورة أو النائية للقاء الحفاظ وتحصيل الأسانيد العالية، وما هو رحمه الله بالذي يأنف من أن تَغْبَرّ قدماه في سبيل الله.
لكن البلد الحرام كان موطنه، وهو البلد الذي تضرب له أعناق المطي وتقطع إليه المفاوز والهواجر كل عام، فيقصده حجاج بيت الله من كل بقاع الأرض على تعدد أجناسهم، ومن بينهم كبار العلماء من أصحاب الفقه، والحديث، وسائر صنوف العلم، ناهيك عمن يأتون في أثناء العام في غير شهر
الحج لأداء العمرة، أو غير ذلك، فكان له رحمه الله نصيب كبير من هؤلاء كما سترى عند الكلام عن شيوخه.
والرحلة لطلب الحديث إنما تندب للطالب إذا كانت فائدتها أكبر مما لو اقتصر على ما في بلده، يقول الخطيب البغدادي:
(المقصود في الرحلة أمران: أحدهما: تحصيل علو الإسناد، وقدم السماع، والثاني: لقاء الحفاظ والمذاكرة لهم والاستفادة.
فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب، ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرحلة، والاقتصار على ما في البلد أولى.
وأما إذا كان الأمران اللذان ذكرناهما موجودين في بلد الطالب، وفي غيره إلَاّ أن ما في كل واحد من البلدين يختص به مثل أن يكون الطالب عراقيًا، وفي بلده عالي أسانيد العراقيين، وحفاظ رواياتها، والعلماء باختلافها، وليس ذلك في غيره، وبالشام من علو أسانيد الشاميين ومن أهل المعرفة بأحاديثهم ما ليس عند غيرهم فالمستحب للطالب الرحلة لجمع الفائدتين من علو الإسنادين وعلم الطائفتين لكن بعد تحصيله حديث بلده وتمهره في المعرفة به) (1) اهـ.
وإذا كان العدني في مكة المكرمة التي يتوارد إليها جموع من العلماء فأَنَّى له أن يحيط بما عندهم كله ويجاوزهم في الوقت نفسه مرتحلًا إلى غيرهم في البلاد الأخرى.
وعليه فلم تيسر المصادر التي ترجمت له إلى رحلاته مما يدل على اقتصاره على ما حوله واكتفائه به، وعدم الإكثار من الرحلات.
ولا تكاد تقرأ ترجمته في كتاب إلَاّ وتجد إشارة إلى توليه القضاء بعدن (2)
(1) الجامع (2/ 281).
(2)
وكانت المناطق المحيطة بها من أعمال مكلا، أخبار مكة (5/ 106).
ومعلوم أن أمر القضاء صعب بحيث لا يمكن أن يتولاه إلَاّ من كان له باع في الفقه وعلوم الشرع، مما يدل على أن المترجم له كان على درجة من العلم والتقوى والصلاح وحسن التدبير.
ولم تشر المصادر إلى السنة التي كان فيها ذلك، ولا إلى المدة التي مكثها في عدن غير أن هناك بعض القرائن التي يمكن أن نقارب من التحديد عن طريقها: فإذا جمعنا ما جاء عنه من تحديد السنوات التي اختلف فيها إلى ابن عيينة وعددها (18) سنة، مع تاريخ قدوم ابن عيينة إلى مكة، وهو (163)(1)، ووفاة ابن عيينة سنة (198)، ومداومة العدني على الطواف ستين سنة، وكونه عاش (90) سنة يمكن أن يقال:
على اعتبار أن ملازمته لابن عيينة كانت متصلة فإنه يكون سمع منه وقت قدومه سنة (163) إلى سنة (181) ثم تولى القضاء في عدن حين بلغ من العمر نحو ثلاثين سنة، ثم مكث في القضاء مدة سنتين تقريبًا عاد بعدهما إلى مكة سنة (183) وابتداء منها بعد ستين سنة تكون هي المقصودة بمواصلته ومواظبته على الطواف بالبيت إلى سنة (243) وهي السنة التي تذكر المصادر أنه توفي فيها (2).
ويمكن أن يضاف إلى ما سبق: أن هارون الرشيد في خلافته حَجّ بالناس ثماني مرات (3)، وكلها في حياة العدني، وهي:
(1) تهذيب التهذيب (4/ 122).
(2)
وأشار إلى نحو هذا الشيخ حمد الجابري في مقدمة تحقيق كتاب الإيمان للعدني (ص 32) وذكر افتراضًا تخر أراه ممتنعًا -والله أعلم-، واستفدت من تحقيقه في هذه المسألة -جزاه الله خيرًا-.
(3)
انظر: البداية والنهاية (10/ 161) وما بعدها.
سنة: (170، 175، 177، 179، 181، 186، 187، 188) وهذه آخرها وفيها يقول أبو عبد الله الفاكهي (1):
(
…
ثم جاء أمير المؤمنين هارون بعده في سنة ثمان وثمانين ومائة، يريد الجوار بمكة، فأقام بمكة، وأخرج لأهل المدينة ومكة نصف عطاء فأعطاهم.
فسمعت محمد بن أبي عمر يقول: أخذت في ذلك العطاء مائة درهم، وأخذ أخي مثلها
…
ألح) (2).
وفي هذا دلالة على أنه في هذه السنّة كان في مكة، ولا يتأتى له أن يلازم البيت ستين سنة إلَاّ ابتداء من تاريخ (183)، ولا يمكنه أن يلي القضاء في صغره، فترجح -والله أعلم- ما تقدم من تقسيم إقامته.
- على أن العدني رحمه الله كان يتنقل بين مدن الحجاز، وربما يسمي المكان الذي سمع فيه أثناء تحديثه فكان من بين ذلك تصريحه بسماعه في المدينة النبوية، مثاله قوله: (حدثني شيخ من أهل المدينة عند رأس الثنية، قال
…
) (3).
وكان يحرص على التزود ممن يقدم إلى مكة من نواحي العالم الإسلامي وذلك لتنوع من أسند عنهم كما سيأتي.
(1) هو الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهي المكي من أكبر علماء ومؤرخي القرن الثالث الهجري، تتلمذ على العدني وأكثر عنه، والبخاري وغيرهما، له ترجمة في مقدمة كتابه أخبار مكة، وانظر أيضًا العقد الثمين (1/ 410).
(2)
انظر أخبار مكة (2/ 303).
(3)
انظر (653).