الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سواهم يصعب حصر بعضهم (1).
المطلب الرابع عشر وفاته، وما ذكر من تغير حفظه
الأصل في هذه القضية -أعني: مسألة تغيره- ما رواه أبو عبيد محمد بن علي الآجري (2)، قال: سمعت أبا داود يقول: إسحاق بن راهويه تغير قبل أن يموت بخمسة أشهر، وسمعت منه في تلك الأيام، فرميت به، ومات سنة سبع، أو ثمان وثلاثين ومائتين. اهـ.
وقد استنكر الحافظ الذهبي هذه المقالة جدًا، فقال (3): فائدة لا فائدة فيها، نحكيها لِنُلِيشَها (أي لنميتها ونزيلها) -فذكر رواية الآجري- ثم قال: فهذه حكاية منكرة. وفي الجملة فكل أحد يتعلل قبل موته غالبًا، ويمرض، فيبقى أيام مرضه متغير القوة الحافظة، ويموت إلى رحمة الله على تغيره، ثم قبل موته بيسير يختلط ذهنه، ويتلاشى علمه، فإذا قضى زال بالموت حفظه، فكان ماذا؟ أفبمثل هذا يلين عالم قط؟! كلا والله، ولا سيما مثل هذا الجبل في حفظه وإتقانه.
نعم ما علمنا استغربوا من حديث ابن راهويه -على سعة علمه- سوى حديث واحد، وهو حديثه عن سفيان بن عيينة، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنها في الفأرة التي وقعت
(1) انظر: السير (11/ 359، 360)؛ وتهذيب الكمال (2/ 376)، وترجمته عند محقق مسند عائشة رضي الله عنها وهو جزء من مسند إسحاق (ص 191 - 210). وقد ذكر منهم مائة تلميذ.
(2)
تاريخ بغداد (6/ 354، 355)؛ وتهذيب الكمال (2/ 387)؛ والسير (11/ 377)؛ والكواكب النيرات (ص 80).
(3)
السير (11/ 377 - 379).
في سمن (1)، فزاد إسحاق في المتن من دون سائر أصحاب سفيان، هذه الكلمة:"وإن كان ذائبًا، فلا تقربوه"(2)، ولعل الخطأ فيه من بعض المتأخرين، أو من راويه عن إسحاق (3).
(1) رواه البخاري (9/ 667) ح (5538)، وأبو داود (4/ 180) ح (3841)، والترمذي (4/ 256) ح (1798)، والنسائي (7/ 178) ح (4258)، وليس عند أحد منهم زيادة إسحاق، في هذا الحديث.
(2)
رواه ابن حبان (2/ 335) ح (1389) من طريق عبد الله بن محمد الأزدي- وهو ابن شيرويه راوي مسند إسحاق (انظر: المعجم المفهرس لابن حجر (ص 108) - قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل عن الفأرة تموت في السمن، فقال:"إن كان جامدًا فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان ذائبًا فلا تقربوه".
(3)
وهذا هو الأقرب عندي، لأن إسحاق رواه في مسنده (4/ 204)، ح (2007) على الصواب دون هذه الزيادة وهو أول حديث في مسند ميمونة عنده -قاله محقق مسند عائشة- ولم أجد هذا الحديث بهذه الزيادة في مسند ميمونة رضي الله عنها، إلَّا أن يكون ذكره في غير مسندها، وفي ذلك بعد إذ كيف يذكره في مسندها على الصواب ثم يذكره في مسند غيرها بزيادة منكرة، وثمة أمر آخر جدير بأن يدفع هذا الأمر عن إسحاق من أصله، وهو أن من ادعى خطأ إسحاق فيه حمل ذلك على ما بعد الاختلاط المزعوم، وهذا في غاية البعد، إذ إن إسحاق حدث بمسنده قبل موته بسنوات، وقد سمع منه عبد الله بن محمد بن شيرويه الأزدي جميع المسند، فهل تراه يأتي ليسمع من إسحاق في حال اختلاطه وهو يعلم أن ذلك سيفسد عليه كل ما حمل عنه.
والذي أرى أنه كان يحدث -أعني ابن شيرويه- في بعض أحايينه حفظًا فدخل عليه حديث في حديث، وذلك أن إسحاق قد ووى عن عبد للرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الفأرة تقع في السمن، فقال:(إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه)، وقد رواه ابن حبان (2/ 335) ح (1390، 1391)، من طريقين عن إسحاق، به، وقد رواه. غير إسحاق عن معمر انظر: مصنف عبد الرزاق (1/ 84) ح (278)
نعم وحديث تفرد به جعفر بن محمد الفريابي، قال: حدثنا إسحاق، حدثنا شبابة، عن الليث، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ، قَالَ:(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إذا كان في سفر فزالت الشمس، صلى الظهر والعصر، ثم ارتحل) فهذا منكر، والخطأ فيه من جعفر (1)، فقد رواه مسلم -في صحيحه- (2) عن عمرو الناقد، عن شبابة، ولفظه:(إذا كان في سفر وأراد الجمع، أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر، ثم يجمع بينهما)، تابعه الحسن بن محمد الزعفراني، عن شبابة، وقد اتفقا عليه -في الصحيحين- (3) من حديث عقيل عن ابن شهاب، عن أنس، ولفظه:(إذا عجل به السير، أخر الظهر إلى أول وقت العصر، فيجمع بينهما).
ومع حال إسحاق وبراعته في الحفظ، يمكن أنه لكونه كان لا يحدث إلَّا من حفظه، جرى عليه الوهم في حديثين من سبعين ألف حديث، فلو أخطأ منها في ثلاثين حديثًا لما حط ذلك رتبته عن الاحتجاج به أبدًا، بل كون إسحاق تتبع حديثه، فلم يوجد له خطأ قط سوى حديثين، يدل على أنه أحفظ أهل
= وهذا وهم فيه معمر، كما قال الحفاظ.
وأما قول الحافظ في الفتح (9/ 668): ووقع في مسند إسحاق بن راهويه، ومن طريقه أخرجه ابن حبان بلفظ:"إن كان جامدًا فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان ذائبًا فلا تقربوه". اهـ.
فلا يلزم منه -عندي- أن يكون وقف عليه في مسند إسحاق، لكن لما رآه عند ابن حبان من طريق راوي مسند إسحاق تجوز في عزوه إلى المسند -والله أعلم-.
(1)
وقد رد الحافظ في الفتح (2/ 582) إعلال من أعله بتفرد إسحاق، ثم تفرد جعفر عنه، فقال: وليس ذلك بقادح، فإنهما إمامان حافظان. اهـ. ثم ساق جملة من الشواهد لرواية إسحاق هذه فانظرها هناك.
(2)
صحيح مسلم (1/ 489) ح (704).
(3)
البخاري (2/ 582) ح (1111)، ومسلم (1/ 489) ح (704).
زمانه. اهـ. وصدق الذهبي رحمه الله فهل يضيره لو ثبت خطؤه فيهما، فكيف ولم يثبت؟ ومما يضعف ويوهن القول بتغيره -أيضًا- ما رواه الخطيب (1) بسنده، عن أبي يزيد محمد بن يحيى بن خالد، قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول في سنة ثمان وثلاثين ومائتين: أعرف مكان مائة ألف حديث، كأني انظر إليها، وأحفظ منها سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي، صحيحة، وأحفظ أربعة آلاف حديث مزورة. فقيل: ما معنى حفظ المزورة؟
قال: إذا مر بي منها حديث في الأحاديث الصحيحة فَلَيتُه منها فليًا. اهـ. مات بنيسابور، سنة ثمان وثلاثين ومائتين، ليلة السبت، لأربع عشرة خلت من شعبان، وهو ابن سبع وسبعين سنة.
قاله البخاري (2)، وابن حبان (3)، وغيرهما.
وقال محمد بن إسحاق بن راهويه (4): توفي رحمه الله في ليلة الأحد، للنصف من شعبان سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وفيها يقول الشاعر:
يا هَدَّةً ما هُدِدنا ليلةَ الأحدِ
…
في نصف شعبان لا تُنسى مدى الأبدِ
وكذلك قال الحسين بن محمد بن زياد، إلَّا أنه لم يسم الليلة (5).
وقال أبو يزيد المشعراني: مات ليلة الخميس سنة ثمان وثلاثين (6).
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 310).
(2)
التاريخ الكبير (1/ 379)، وفي تاريخه الصغير (2/ 338): وهو ابن خمس وسبعين سنة.
(3)
الثقات (8/ 116).
(4)
كنى الدولابي (2/ 158).
(5)
تاريخ بغداد (6/ 355).
(6)
نفس المصدر السابق.
وقد نقل مغلطاي (1) عن الحاكم قوله: مات يوم السبت، في يوم بارد، ولم يدفن إلَّا يوم الأحد.
قلت: وبهذا يجمع بين قول من قال: مات ليلة السبت -كالبخاري-
ومن قال: ليلة الأحد -كمحمد بن إسحاق بن راهويه وغيره-.
فيقال: مات ليلة السبت، ودفن ليلة- أو يوم- الأحد.
* * *
(1) إكمال مغلطاي (1 ق 86 ب).