الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث طلبه للعلم ورحلته لأجله
بدأ مسدد رحمه الله سماع الحديث بعد أن جاوز العاشرة -كما يظهر- على عادة البصريين، إذ إنهم قبل العاشرة يعتنون بحفظ كتاب الله ومعرفة القراءة والكتابة وهذا هو الذي عليه جمهور السلف رحمهم الله إلَاّ أن أهل الكوفة يؤخرون السماع إلى بلوغ العشرين، وأهل الشام إلى بلوغ الثلاثين (1)، وعندي أن ما عليه أهل البصرة أولى وأفضل، وذلك لما فيه من اغتنام الأوقات، وعلو الإسناد، ولولا توفيق الله ثم ذلك لم نر كبار الأئمة يجلسون لسماع الحديث، وكتابة المصنفات ولما يبلغوا العشرين، ولعل هذا من أهم أسباب كثرة حفاظ البصرة وتميزهم عن غيرهم بقوة الحفظ وكثرة الإتقان، ولإيضاح ذلك خذ مثالين (2) لإمامين من أئمتهم، ومن الموافقات أنهما في طبقة واحدة، ومن أبرز شيوخ الإمام مسدد:
1 -
قال أبو داود: ما أحد من المحدثين إلَاّ قد أخطأ، إلَاّ إسماعيل ابن علية، وبشر بن المفضل.
2 -
قال الهيثم بن خالد: اجتمع حفاظ أهل البصرة، فقال أهل الكوفة لأهل البصرة: نحوا عنا إسماعيل -يعنون ابن علية- وهاتوا من شئتم.
أما شعبة بن الحجاج فشهرته تغني عما سيسطره قلمي هنا، وستأتي ترجمته عند ح (2)، وأما تلميذه يحيى القطان -وهو شيخ مسدد- فقد قال فيه الإمام أحمد -وحسبك به-: حدثني يحيى القطان وما رأت عيناي مثله،
(1) وانظر لما مضى: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/ 106)؛ وفتح المغيث (2/ 8).
(2)
انظر: تهذيب التهذيب (1/ 276).
وقال مرة: لا ترى عيناك مثله (1). وقال ابن حبان رحمه الله: كان من سادات أهل زمانه حفظًا وورعًا وعقلًا وفهمًا وفضلًا ودينًا وعلمًا، وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن النقل، وترك الضعفاء، ومنه تعلم علم الحديث أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وسائر شيوخنا.
قلت: إن مسددًا بدأ سماع الحديث، حين قارب البلوغ أو كاد اعتمادًا على الاستنتاج، وذلك بناءً على ما تقدم أن أهل البصرة يبدؤون السماع بعد العاشرة، وأن أقدم شيخ له هو: سلام ابن أبي مطيع، البصري
(ت 164 هـ)(2)، ثم نشط في السماع من كبار الأئمة وهو لا يزال في سن الشباب، حيث روى عن جماعة منهم من توفي في العقد الثامن من القرن الثاني، أمثال جويرية بن أسماء الضبعي (ت 173 هـ)، وحماد بن زيد (ت 179 هـ)، وسلام بن سليم، أبي الأحوص (ت 179 هـ)، وشريك النخعي (ت 177 هـ)، وعبد الواحد بن زياد (ت 176 هـ)، ومحمد بن جابر السحيمي (ت بعد 170 هـ)، ومهدي بن ميمون (ت 172 هـ)، وأبي عوانة الوضاح بن عبد الله (ت 175 هـ) وخصوصًا من هؤلاء الثاني والأخير فقد حمل عنهما الشيء الكثير.
وكان من توفيق الله لهذا الإمام أن بلده -البصرة- من أبرز المراكز العلمية، وأكثرها دويًا بالحديث، وذلك لما فيها من معادن الحفظ. وسادة العلم، وزادها حركة وازدهاوًا وقوعها في منتصف الطريق للراحلين لطلب الحديث بين الحجاز ومصر والشام من جهة، وخراسان وبلاد الجزيرة من جهة ثانية، وكذلك قربها من عاصمة الخلافة الإسلامية آنذاك، بغداد، والتي كانت
(1) تهذيب التهذيب (11/ 218).
(2)
انظر: التقريب (ص 261: 2711).
تعج بفحول العلماء، مما وفر في المنطقة مادة علمية ضخمة للطلب والمذاكرة.
هذه الأسباب وغيرها جعلت إمامنا ينهمك في السماع من أعيان بلده، ولم أقف على نص يذكر رحلته لطلب العلم في البلاد الأخرى، ولعل ذلك راجع إلى ما أسلفته من ميزات بلده، خصوصًا إذا أضيف إلى ذلك ما نهجه الأئمة من أنه لا ينبغي أن يرحل طالب العلم قبل أن يستوعب أهل بلده، لا سيما مثل البصرة التي فيها من ليس له نظير في الدنيا في عصره، قال الخطيب رحمه الله (1): المقصود في الرحلة في الحديث أمران:
أحدهما: تحصيل علو الإسناد، وقدم السماع.
والثاني: لقاء الحفاظ، والمذاكرة لهم، والاستفادة عنهم، فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب، ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرحلة، والاقتصار على ما في البلد أولى
…
وأما إذا كان الأمران اللذان ذكرناهما موجودين في بلد الطالب، وفي غيره، إلَاّ أن ما في كل واحد من البلدين يختص به،
…
فالمستحب للطالب الرحلة لجمع الفائدتين من علو الإسنادين، وعلم الطائفتين، لكن بعد تحصيله حديث بلده وتمهره في المعرفة
…
وإذا عزم الطالب على الرحلة فينبغي له أن لا يترك في بلده من الرواة أحدًا إلَاّ ويكتب عنه ما تيسر من الأحاديث وإن قلت. اهـ.
لكن بتأمل أقاليم شيوخه، يمكن أن يخرج المرء بنتيجة وهي: إنه استفاد من المراكز المهمة، والقريبة من بلده مثل (الكوفة) وهي لا تبعد عن البصرة في كثرة أئمة المحدثين كما أن (واسط) -وتقع بينهما- كان لها من المنزلة ما جعل الكبار يضربون لها أكباد المطي آلاف الأميال.
(1) الجامع (2/ 223 - 224).